اللمسة البشرية.. كيف نحقق أقصى استفادة من الآلة؟

عندما اختارت OpenAI اسم ChatGPT، حمل الاختصار دلالة أعمق. فبينما يطلق عليه رسميًا «المحول التوليدى المدرب مسبقًا»، تستحضر الأحرف أيضًا مفهوم «التكنولوجيا للأغراض العامة»، وهو مصطلح اقتصادى يخصص للابتكارات القادرة على تغيير حضارات بأكملها.
الكتابة، وتشكيل المعادن، والكهرباء: أعادت هذه التطورات الأساسية تشكيل بنية المجتمع البشرى. قليلون هم من يشكّون فى أن الذكاء الاصطناعى ينتمى إلى هذا الصرح العظيم، ولكن كما هو الحال مع تلك الثورات السابقة، لا تزال تطبيقاته النهائية غامضة بشكل محير.
لطالما شكلت الفجوة بين القدرة التكنولوجية والتطبيق العملى تحديًا للخيال البشرى، لكن الأنماط التى انبثقت من حواراتنا حول تأثير الذكاء الاصطناعى تكشف عن أن الوعد الحقيقى للذكاء الاصطناعى لا يكمن فى استبدال الحكم البشرى، بل فى توسيع نطاقه. فبينما تصطدم أحلام الأتمتة بتعقيدات العالم الحقيقى، يزدهر التعزيز بالحفاظ على ما يتفوق فيه البشر مع تعزيز القدرات من خلال شراكة الآلة.
هذه المبادئ- الحفاظ على التحكم البشرى، وتعزيز التعاون بدلًا من الاستبدال، واستهداف مجالات محددة بانتظام كافٍ للتعلم، وتوليد الاحتمالات بدلًا من الإجابات، وحل المشكلات الإنسانية الحقيقية، وتشجيع الحوار الإبداعى- تخترق ضباب الترويج لتكشف عن مسار عملى وتحويلى للمضى قدمًا، ليس نحو يوتوبيا خالية من البشر، بل نحو شراكات جديدة متطورة بين العقل والآلة.
فى إطار سلسلة متواصلة من الحوارات حول مستقبل الذكاء الاصطناعى لمجلة «نيوزويك»، قال يان ليكون، كبير علماء الذكاء الاصطناعى فى شركة ميتا، والحائز على جائزة تورينج وأحد مؤسسى التعلم العميق: «سأكون سعيدًا لو امتلكنا بحلول وقت تقاعدى أنظمة ذكاء اصطناعى ذكية للغاية. وبالمناسبة، التقاعد قادم بسرعة، لذا ليس لدى الكثير من الوقت».
يرى «ليكون» وعدًا استثنائيًا للذكاء الاصطناعى يلوح فى الأفق. لكننا مع ذلك لم نشهد حتى الآن هذا القدر من النجاح.
فبينما يضخ رأس المال الاستثمارى واستثمارات الشركات مليارات الدولارات فى مصانع أحلام الذكاء الاصطناعى، واعدة بتحولات ثورية- سواء كان ذلك علاجًا للسرطان أو ترويضًا أخيرًا لرسائل البريد الإلكترونى- يبقى واقع قاس قائمًا: معظم مبادرات الذكاء الاصطناعى تنهار تحت وطأة طموحاتها الخاصة.
على سبيل المثال: فى سعيها نحو السيارات ذاتية القيادة، أنفقت شركة «أبل» أكثر من ١٠ مليارات دولار على تطوير سيارتها ذاتية القيادة، قبل أن تتخلى عن المشروع بالكامل. وأنفقت شركة «جنرال موتورز» ما يقرب من ١٠ مليارات دولار على وحدة سيارات الأجرة الآلية «كروز» قبل إغلاقها فى ديسمبر ٢٠٢٤.
فى ظل هذه الخلفية من التوقعات المبالغ فيها والنتائج المتدنية، برز فهم أكثر دقة من أشخاص مثل «ليكون»، الذين أمضوا عقودًا فى فهم الآليات الفعلية للأنظمة الذكية.
ما يمكن للذكاء الاصطناعى تحقيقه اليوم لا يزال غامضًا. يكشف التعرف على الأنماط ومعالجة اللغة عن اختراقات مذهلة، ولكن فى الواقع العملى تبدو القيود واضحة.
الأمر الأكثر غموضًا هو ما إذا كانت قدرات اليوم المذهلة ستستمر فى التطور بهذه الوتيرة الخارقة. إلى أى مدى ستتحسن؟ والأكثر غموضًا هو: متى ستصل ثورة الذكاء الاصطناعى التى تغير كل شىء بالفعل- هل ستأتى فى ثلاثينيات القرن الحادى والعشرين، التى يتوقع سام ألتمان من OpenAI أنها ستكون «مختلفة تمامًا عن أى وقت مضى»؟ أم أنها موجودة بالفعل؟
يمكن للشركات التى تتقن دمج الذكاء الاصطناعى أن تكتسب مزايا تنافسية هائلة، بينما تواجه الشركات التى لا تتقنه خطر التقادم. ومع ذلك، وجدت مؤسسة «راند» أن أكثر من ٨٠٪ من مشاريع الذكاء الاصطناعى تفشل، أى ضعف معدل فشل مشاريع تكنولوجيا المعلومات التى لا تعتمد على الذكاء الاصطناعى.
ومن خلال هذه الحوارات واسعة النطاق، تبرز ستة دروس أساسية من المتنبئين والممارسين الذين أمضوا عقودًا فى بناء ودراسة ونشر أنظمة معقدة فى العالم.

سيطرة البشر
من بين جميع أحلام الذكاء الاصطناعى لا شىء يغرى رواد وادى السيليكون أكثر من رؤية مستقبل بلا بشر تعمل فيه الآلات دون إشراف.
يعتقد ألتمان أن التكنولوجيا التى يبنيها ستنجز قريبًا «٩٥٪ مما يستخدمه المسوقون اليوم من وكالات وخبراء استراتيجيين ومبدعين- بسهولة، وبشكل شبه فورى، وبتكلفة شبه معدومة- بواسطة الذكاء الاصطناعى... صور، مقاطع فيديو، أفكار حملات! لا مشكلة».
فى اجتماع خاص مع المشرعين، حذر ألتمان من أن «ما يزيد على ٧٠٪ من الوظائف قد تلغى بسبب الذكاء الاصطناعى». هذه ليست تكهنات فارغة. لقد خصصت مبالغ طائلة فى هذا السعى نحو أتمتة خالية من البشر، إلا أن النتائج غالبًا ما تكون أقل من الوعود.
رائد الروبوتات «رودنى بروكس»، الرئيس السابق لمختبر الذكاء الاصطناعى فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ومؤسس شركة «آى روبوت»، يعلم من خلال عقود من بناء تطبيقات واقعية من تقنيات رائدة، أنه لكى يتم اعتمادها على نطاق واسع، يجب أن تفسح حتى أذكى الأدوات المجال للبشر.
ويقول فى سلسلة مقابلات مجلة «نيوزويك»: «الناس لا يقبلون التقنيات الجديدة إلا عندما لا يفقدون إحساسهم بالسيطرة».
يوضح بروكس هذا المبدأ بالإشارة إلى روبوتات توصيل المستشفيات المصممة لنقل الأطباق والبياضات المتسخة. ويقول إنه غالبًا ما يرى هذه الآلات، التى يحتمل أن توفر الجهد، «مطفأة ومهملة» لأن الطاقم الطبى، الذى يندفع عبر الممرات لأداء أعمال إنقاذ حياة، يواجه الروبوتات التى تسد طريقهم دون أى وسيلة لإخبارهم بالابتعاد. لذلك، بعد فترة، ينتهى الأمر بالآلات معطلة ومهملة.
والمفارقة هى أنه حتى مع الترويج لمستقبل آلى، فإن حدود الذكاء الاصطناعى غالبًا ما تعنى أن البشر متحكمون بشكل كبير فى العملية.
عندما استعرض إيلون ماسك روبوته البشرى «أوبتيموس»، فى مؤتمر صحفى عام ٢٠٢٤، كان البشر يتحكمون فى الروبوتات عن بُعد. قبل أن تعلق شركة «كروز» عملياتها، كانت مركباتها «ذاتية القيادة» تتطلب مساعدة بشرية عن بُعد كل أربعة إلى خمسة أميال.
يقول «ليكون» لـ«نيوزويك»: «يمكن لشاب فى السابعة عشرة من عمره تعلم قيادة سيارة فى حوالى ٢٠ ساعة، وأحيانًا أقل، دون التسبب فى أى حادث تقريبًا». ويضيف: «لدينا ملايين الساعات من بيانات تدريب الأشخاص الذين يقودون السيارات، وما زلنا لا نملك سيارات ذاتية القيادة.. هذا يعنى، فيما يتعلق بفهم العالم، أننا نفتقد شيئًا بالغ الأهمية».

التعزيز وليس الأتمتة
يقول ديفيد إيجلمان، عالم الأعصاب فى جامعة ستانفورد، لمجلة «نيوزويك»، عن أنجح عمليات نشر الذكاء الاصطناعى: «فى الوقت الحالى يعتمد الأمر برمته على التعاون». ويوضح أنه بالنسبة للأفراد «يمكننا التآزر معه وتسريع الأمور بشكل كبير».
يتفوق نموذج الشراكة هذا باستمرار على محاولات الأتمتة فى العديد من القطاعات. حتى بين أكبر مؤيدى الذكاء الاصطناعى، يبدو أن التعزيز هو السائد.
فعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعى يكتب ٣٠٪ من شفرة الشركة، يواصل ساتيا ناديلا، الرئيس التنفيذى لشركة مايكروسوفت، توظيف المهندسين للتركيز على الصفات البشرية المميزة، مثل «إضفاء الوضوح» على المواقف الغامضة.
أما ساندر بيتشاى، الرئيس التنفيذى لشركة جوجل، فيعتبر الذكاء الاصطناعى «مسرعًا» يمكنه تأدية المهام الشاقة، بدلًا من استبدال العمال البشريين كليًا.
أظهرت دراسة أجراها إريك برينجولفسون، الخبير الاقتصادى فى جامعة ستانفورد، عام ٢٠٢٣، سبب نجاح التعزيز: فقد حقق دعم الذكاء الاصطناعى زيادة فى الإنتاجية بنسبة ١٤٪ لموظفى خدمة العملاء، وتحسنًا بنسبة ٣٤٪ للموظفين المبتدئين عند استخدامه كأداة دعم، بدلًا من كونه تقنية بديلة.
وقد أدرك سيباستيان سيمياتكوفسكى، الرئيس التنفيذى لشركة كلارنا، هذا الأمر بعد أن حظى باهتمام واسع النطاق لتصريحه بأن «الذكاء الاصطناعى قادر بالفعل على القيام بجميع الوظائف التى نقوم بها نحن البشر»، وذلك أثناء استبدال ٧٠٠ متعاقد خدمة عملاء بأنظمة الذكاء الاصطناعى فى فبراير من العام الماضى.
ولكن بعد فترة وجيزة، اكتشف أن عملاء «كلارنا» كانوا يسلمون فى ثلث الحالات إلى وكلاء بشريين، عندما يعجز الذكاء الاصطناعى عن حل المشكلات المعقدة. وفى غضون أشهر، أقر سيمياتكوفسكى بأن الذكاء الاصطناعى أدى إلى «انخفاض جودة» تجارب العملاء، ما دفع إلى التحول إلى نهج التعزيز.
وقد وظفت الشركة بشرًا مرة أخرى، وهى تستخدم الآن الذكاء الاصطناعى للتعامل مع الاستفسارات الروتينية، بينما يتعامل الوكلاء البشريون مع أكثر حالات العملاء تعقيدًا.
فى مايو، صرّح سيمياتكوفسكى بأن خفض تكاليف العمالة كان «عامل تقييم مهيمنًا للغاية» لأن «ما ينتهى به الأمر هو جودة أقل». وأضاف أن «الاستثمار فى جودة الدعم البشرى هو سبيلنا للمستقبل».

اختيار المهام
تستطيع نماذج اللغة الكبيرة كتابة الشعر، وتلخيص الأبحاث، وإنشاء الشفرة البرمجية بسلاسة مذهلة. ما تطلب تريليونات من الرموز، ومليارات من المعلمات، وبيتابايتات من البيانات، ومساحات شاسعة من خوادم وحدات معالجة الرسومات لاكتشافه، هو أن الكلمة المكتوبة تحتوى على أنماط أكثر قابلية للتنبؤ مما توقعه أى شخص.
يقر بروكس قائلًا: «من المذهل مدى نجاح ذلك فى توليد اللغة. لا أعتقد أن معظم الناس قبل عشر سنوات كانوا ليصدقوا أن ذلك سينجح إلى هذه الدرجة». المفاجأة الأساسية: «ما أظهرته لنا برامج الماجستير فى القانون هو أننا نستطيع محاكاة اللغة بهذا الجانب غير المدروس».
هذا إشارة إلى كتاب «التفكير.. سريعًا وبطيئًا» لعالم النفس الحائز على جائزة نوبل، دانيال كانيمان، الذى يقسم الإدراك إلى استجابات تلقائية للنظام ١، وتأملات مجهدة للنظام ٢.
يعمل طلاب ماجستير القانون كمعالجى النظام ١، متفوقين فى مهام لغوية كالكتابة والتحرير والترجمة، لكنهم غالبًا ما يفشلون فى أمور تتطلب تفكيرًا من النظام ٢، كالتفكير المجرد، وحل المشكلات بطريقة إبداعية، والتكيف مع المواقف الجديدة.
السؤال المحورى هو: ما أنواع المشكلات التى يمكن حلها باستخدام معالجات النظام ١ وحدها؟
على سبيل المثال، قد يكون رئيس شركة محاماة قادرًا على إدراك أن تطبيق الذكاء الاصطناعى سيكون أفضل فى صياغة العقود- صيغ موحدة مع أمثلة تدريبية كثيرة- لكنه سيواجه صعوبة فى التوصل إلى حجج قانونية جديدة.
ينجح الذكاء الاصطناعى حيث يمكن للخبرة البشرية أن تتطور، ويواجه صعوبات حيث يضطر حتى المحترفون ذوو الخبرة إلى الاعتماد على الحدس وحده.
توليد الاحتمالات
اكتشف المحامى «ستيفن شوارتز» خطر الاعتماد على ChatGPT عندما اكتشف قاضٍ فيدرالى ست قضايا قضائية مزيفة استشهد بها شوارتز، والتى اخترعها الذكاء الاصطناعى، ما أكسب المحامى شهرة وطنية وغرامات قضائية قدرها ٥٠٠٠ دولار.
نشر باحثون فى شركة «أبل» دراسة فى يونيو بعنوان «وهم التفكير»، وجدت أن نماذج التفكير المتقدمة «تواجه انهيارًا كاملًا فى الدقة يتجاوز بعض التعقيدات»، حتى عند تزويدها بتعليمات واضحة لحل المشكلات.
ومع ذلك، يتحول هذا الضعف إلى قوة، عندما تحتاج فرق التسويق إلى توليد عشرات المفاهيم فورًا، أو عندما يرغب المخططون الاستراتيجيون فى اكتشاف إمكانات غير مدروسة، حتى فى المجالات الدقيقة مثل الطب.
يرى فان ألين، رئيس قسم علوم السكان فى معهد دانا فاربر للسرطان، قيمة مماثلة فى العصف الذهنى التشخيصى للذكاء الاصطناعى، الذى يبرز احتمالات قد يغفلها الأطباء البشريون.
فبينما يتذكر الأطباء «التشخيص ٩٦٥» ويتجاهلون «التشخيص ٩٦٥٢»، يستطيع الذكاء الاصطناعى «استخلاص جميع الاحتمالات الـ١٠٠٠٠ فورًا» ومساعدة الأطباء على ضمان «أن تكون تلك الشجرة هى الشجرة الصحيحة، وألا يقلموا الكثير من الأغصان مبكرًا».
إن تعليم الآلات التوقف عن الهلوسة هو مخالفة للتيار السائد، فالخدعة الحقيقية تكمن فى تعليم البشر كيفية تسخير إبداع الذكاء الاصطناعى، وتحويل أخطر عيوبه إلى ميزة قيمة.
احتضان الشراكة
عندما عزلت الجائحة مصمم الإنتاج الأسطورى «ريك كارتر» عن زملائه المبدعين المعتادين- مخرجين مثل ستيفن سبيلبرج وجيمس كاميرون وجاى جاى أبرامز- اكتشف اكتشافًا مذهلًا أثناء تجربته أدوات فيديو الذكاء الاصطناعى مثل Midjourney.
يقول كارتر لمجلة «نيوزويك» فى سلسلة المقابلات: «أستطيع تحفيزها، بل وحتى ارتكاب الأخطاء، فتعود إلىّ بأشياء.. سأسميها مجرد مكمل لما أفكر فيه».
اكتشف كارتر أمرًا بالغ الأهمية: الذكاء الاصطناعى يعمل بشكل أفضل كشريك حوار إبداعى وليس كمولد إبداعى للأفكار النهائية. «يبدأ بالتفاعل مع رؤيتى للأمور، ويحفزنى على المضى قدمًا فى هذا الاتجاه».