الخميس 28 أغسطس 2025
المحرر العام
محمد الباز

وضع التنظيم.. كيف تدمر «نماذج اللغة الكبيرة» أصالة أفكارنا؟

حرف

فى تجربة أُجريت العام الماضى فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، قسم أكثر من خمسين طالبًا من جامعات حول بوسطن إلى ثلاث مجموعات، وطلب منهم كتابة مقالات، مثل «هل يجب أن تفيد إنجازاتنا الآخرين لنكون سعداء حقًا؟». 

طلب من إحدى المجموعات الاعتماد على أدمغتها فقط لكتابة المقالات. ومنحت المجموعة الثانية إمكانية الوصول إلى جوجل للبحث عن معلومات ذات صلة. وسمح للمجموعة الثالثة باستخدام ChatGPT. 

وعند إتمام الطلاب من المجموعات الثلاث للمهام، ارتدوا سماعة رأس مزودة بأقطاب كهربائية لقياس نشاط أدمغتهم. 

ووفقًا لناتاليا كوزمينا، عالمة أبحاث فى مختبر الوسائط بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وأحد المؤلفين المشاركين فى ورقة عمل جديدة توثق التجربة، أظهرت نتائج التحليل تباينًا كبيرًا: فقد أظهر المشاركون الذين استخدموا ChatGPT نشاطًا دماغيًا أقل من أى من المجموعتين الآخرين.

تحليل نموذج أداة الذكاء الاصطناعى أظهر فيه المستخدمون اتصالات أقل انتشارًا بين أجزاء مختلفة من أدمغتهم، واتصالات ألفا أقل، المرتبطة بالإبداع، واتصالات ثيتا أقل، المرتبطة بالذاكرة العاملة. 

تعد دراسة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا من أوائل الدراسات التى تقيس علميًا ما أسمته كوزمينا «التكلفة المعرفية» للاعتماد على الذكاء الاصطناعى لأداء مهام، كان البشر ينجزونها يدويًا فى السابق.

من النتائج اللافتة للنظر الأخرى أن النصوص كانت تميل إلى التقارب حول كلمات وأفكار مشتركة. صممت أسئلة هذا الاختبار لتكون واسعة بما يكفى لاستخلاص استجابات متعددة، إلا أن استخدام الذكاء الاصطناعى كان له تأثير متجانس. 

قالت كوزمينا: «كانت النتائج متشابهة للغاية لجميع هؤلاء الأشخاص المختلفين، الذين جاءوا فى أيام مختلفة، وتحدثوا عن مواضيع شخصية واجتماعية رفيعة المستوى، وكانت منحرفة فى بعض الاتجاهات المحددة». 

بالنسبة للسؤال حول ما يجعلنا «سعداء حقًا»، كان بعض المستخدمين أكثر عرضة من المجموعات الأخرى لاستخدام عبارات تتعلق بالنجاح المهنى والشخصى. 

ردًا على سؤال حول العمل الخيرى ««هل يجب أن يكون لدى الأشخاص الأكثر حظًا من غيرهم التزام أخلاقى أكبر لمساعدة أولئك الأقل حظًا؟»»، جادلت مجموعة ChatGPT بالإجماع لصالح ذلك، بينما تضمنت مقالات المجموعات الأخرى انتقادات للعمل الخيرى. 

قالت كوزمينا: «لا توجد آراء متباينة». وتابعت: «نأخذ متوسط كل شىء فى كل مكان دفعة واحدة، وهذا ما نبحث عنه هنا».

الذكاء الاصطناعى تقنية تعتمد على المتوسطات: تدرب نماذج اللغة الكبيرة على رصد الأنماط عبر مساحات شاسعة من البيانات، وتميل الإجابات التى تنتجها إلى التوافق، سواء فى جودة الكتابة، التى غالبًا ما تكون مليئة بالكليشيهات والعبارات المبتذلة، أو فى جودة الأفكار. 

وقد ساعدت تقنيات أخرى أقدم الكتاب، وربما أضعفتهم بالطبع- ويمكن قول الشىء نفسه عن SparkNotes أو لوحة مفاتيح الحاسب. لكن مع الذكاء الاصطناعى، أصبحنا قادرين تمامًا على الاستعانة بمصادر خارجية فى تفكيرنا، مما يجعلنا أكثر اعتيادية أيضًا. 

بمعنى ما، فإن أى شخص يستخدم ChatGPT لكتابة تهانى زفاف أو صياغة عقد أو كتابة بحث جامعى، كما يفعل عدد مذهل من الطلاب بالفعل، يقع فى تجربة تشبه تجربة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. 

ووفقًا لسام ألتمان، الرئيس التنفيذى لشركة OpenAI، فإننا على وشك الوصول إلى ما يسميه «التفرد اللطيف». فى تدوينة حديثة تحمل هذا العنوان، كتب ألتمان أن «ChatGPT أقوى بالفعل من أى إنسان عاش على الإطلاق. يعتمد عليه مئات الملايين من الناس يوميًا فى مهام متزايدة الأهمية». 

وفى روايته، يندمج الإنسان مع الآلة، وتحسن أدوات الذكاء الاصطناعى التى تطورها شركته النظام القديم والمتهالك لاستخدام أدمغتنا العضوية: فهى «تضخم بشكل كبير إنتاجية الأشخاص الذين يستخدمونها»، كما كتب. 

لكننا لا نعرف العواقب بعيدة المدى للاعتماد الجماعى على الذكاء الاصطناعى، وإذا كانت هذه التجارب المبكرة مؤشرًا على شىء، فإن الإنتاج المضخم الذى يتوقعه ألتمان قد يأتى بتكلفة باهظة على الجودة.

فى أبريل، نشر باحثون فى جامعة كورنيل نتائج دراسة أخرى وجدت أدلة على التجانس الناتج عن الذكاء الاصطناعى. 

أجابت مجموعتان من المستخدمين، إحداهما أمريكية والأخرى هندية، على أسئلة كتابية مستوحاة من خلفياتهم الثقافية: «ما طعامك المفضل ولماذا؟»، «ما مهرجانك/ عطلتك المفضلة وكيف تحتفل بها؟». 

استخدمت مجموعة فرعية من المشاركين الهنود والأمريكيين أداة إكمال تلقائى مدعومة بـ ChatGPT، والتى كانت تزودهم باقتراحات كلمات كلما توقفوا، بينما كتبت مجموعة فرعية أخرى دون مساعدة. 

وخلصت الدراسة إلى أن كتابات المشاركين الهنود والأمريكيين الذين استخدموا الذكاء الاصطناعى «أصبحت أكثر تشابهًا» مع بعضها بعضًا، وأكثر توجهًا نحو «المعايير الغربية». 

كان مستخدمو الذكاء الاصطناعى أكثر ميلًا للإجابة بأن طعامهم المفضل هو البيتزا «جاء السوشى فى المرتبة الثانية»، وأن عطلتهم المفضلة هى عيد الميلاد. حدث التجانس على المستوى الأسلوبى أيضًا. 

على سبيل المثال، من المرجح أن تتجنب المقالة التى تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعى والتى تصف بريانى الدجاج كطعام مفضل، ذكر مكونات محددة مثل جوزة الطيب ومخلل الليمون وتشير بدلًا من ذلك إلى «النكهات الغنية والتوابل».

بالطبع، يمكن للكاتب نظريًا رفض أى اقتراح مولد بواسطة الذكاء الاصطناعى. لكن يبدو أن هذه الأدوات تمارس تأثيرًا منومًا، مما يجعل التدفق المستمر للاقتراحات يتجاوز صوت الكاتب نفسه. 

شبه أديتيا فاشيستا، أستاذ علوم المعلومات بجامعة كورنيل والمشارك فى تأليف الدراسة، الذكاء الاصطناعى بـ«معلم يجلس خلفى فى كل مرة أكتب فيها، قائلًا: هذه هى النسخة الأفضل». 

وأضاف: «من خلال هذا التعرض الروتينى، تفقد هويتك، وتفقد أصالتك. تفقد الثقة فى كتابتك». 

أخبرنى مور نعمان، زميل فاشيستا والمشارك فى تأليف الدراسة، أن اقتراحات الذكاء الاصطناعى «تعمل سرًا، وأحيانًا بقوة كبيرة، على تغيير ليس فقط ما تكتبه، بل ما تفكر فيه أيضًا». قد تكون النتيجة، بمرور الوقت، تحولًا فيما «يعتقده الناس أنه طبيعى ومرغوب فيه ومناسب».

أخبرتنى فوهينى فارا، الروائية والصحفية التى ركز كتابها الأخير «عمليات البحث» جزئيًا على تأثير الذكاء الاصطناعى على التواصل البشرى والذات، أن رداءة نصوص الذكاء الاصطناعى «تمنحها وهمًا بالأمان والبراءة». 

وأضافت فارا: «ما يحدث فى الواقع هو تعزيز للهيمنة الثقافية». لدى OpenAI حافز ما لتقليص مواقفنا وأساليب تواصلنا، فكلما زاد عدد الأشخاص الذين يجدون مخرجات النماذج مقبولة، اتسع نطاق البشرية التى يمكن تحويلها إلى مشتركين مدفوعين. قالت فارا: «تتحقق وفورات الحجم إذا كان كل شىء متماثلًا».

مع «التفرد اللطيف» الذى تنبأ به ألتمان فى منشوره على مدونته، كتب: «سيتمكن عدد أكبر بكثير من الناس من ابتكار البرمجيات والفنون». 

بالفعل، تعد أدوات الذكاء الاصطناعى، مثل برنامج توليد الأفكار «فيجما» «إبداعك، بلا قيود» وتطبيق أدوبى للذكاء الاصطناعى للهواتف المحمولة «قوة الذكاء الاصطناعى الإبداعى» بربطنا جميعًا بإلهاماتنا. 

إلا أن دراسات أخرى أشارت إلى تحديات أتمتة الأصالة.