حوار خاص لـ«حرف» من السويد مع مَنْ هزم إسرائيل بالكاميرا
من المسافة صفر.. المخرج الفلسطينى رشيد مشهراوى: أصنع بالسينما وطنًا غير قابل للاحتلال!
- أخوض بالكاميرا حربًا كى أثبت للعالم بأننا «بشر عاديون» وليس «دواعش»
- إسرائيل «جملة اعتراضية» فى حياة فلسطين مصيرها إلى زوال
- «غزة من المسافة صفر» يمنع موتنا مرتين.. بالرصاص وبموت حكاياتنا
- المشروع خاطبنى قائلًا: «أين أنت يا رشيد؟ كفى بكاءً أمام الأخبار»
- لسنا شعبًا يترك أرضه ولو حطامًا.. وحديث ترامب عن ريفييرا الشرق أضحكنى
- لا نملك سلاحًا يمكّننا من أرضنا لكن الأرض نفسها تقول «هؤلاء الغزاوية لى»
- لا أخاف على الوجود الفلسطينى أبدًا فلن يستطيعوا قتل 10 ملايين إنسان
- هل يمكن لآلاف العائدين إلى بيوت دُمرت تمامًا أن يقبلوا بالتهجير؟!
- هل تستطيع إسرائيل أن تهزم الأرض أو الشجر أو الجبل أو البحر؟!
بعد سنوات قضاها فى رحاب الفن السابع، ما زال المخرج الفلسطينى رشيد مشهراوى يحمل فى يده سلاحًا يرعب دولة الاحتلال الإسرائيلى، ليس رصاصة ولا قنبلة ولا حجرًا، بل كاميرا ينفذ من خلالها مشروعًا سينمائيًا يضم عشرات الأفلام التى تؤرخ للإبادة والمجازر فى غزة.
المشروع يحمل اسم «غزة من المسافة صفر»، وأحدث صدى واسعًا فى مهرجان «كان» لعام 2024، ومن خلاله وثّق ما يحدث على أرض غزة، و نقله إلى شاشة السينما، فى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من دول العالم، لتتحول أعماله إلى وثيقة وحجة على الكيان الغاشم، الذى ارتكب جرائم حرب وإبادة وتطهيرًا عرقيًا ضد الشعب الفلسطينى، منذ عام 1948، وصولًا إلى الحرب الجارية منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣.
عن «غزة من المسافة صفر»، ورؤيته لما يحدث فى قطاع غزة، ولمخطط الاحتلال الرامى إلى تهجير الفلسطينيين، وغيرها من القضايا الأخرى، يدور حوار «حرف» التالى مع المخرج الفلسطينى رشيد مشهراوى، الذى أجرته معه فى السويد.
■ رشيد مشهراوى يتردد على مهرجان «مالمو» للسينما العربية فى السويد منذ بداياته، فهل تعتبر نفسك من مؤسسى هذا المهرجان مع المنتج والمخرج الفلسطينى محمد قبلاوى؟
- المنتج والمخرج الفلسطينى محمد قبلاوى صديق عزيز، وبيننا هم مشترك فى السينما والوطن. لكننى لست من مؤسسى مهرجان «مالمو»، فقط شاركت فيه ودعمته منذ بداياته كما دعمنى هذا المهرجان ودعم سينمائيين كُثرًا غيرى، بداية من فيلمى «فلسطين ستيريو»، الذى عُرض وُوزع فى جميع مدن السويد، قبل ١٣ عامًا كاملة.
علاقتى بمحمد قبلاوى، مؤسس مهرجان «مالمو» للسينما العربية فى السويد، بدأت منذ أن كنا نلتقى فى مهرجان «دبى». أما علاقتى بمهرجان «مالمو» فبدأت منذ الدورة الثالثة للمهرجان، الذى يدعم الأفلام غير التجارية، ويعرض أفلامًا قصيرة، ويساند مخرجين يقدمون تجاربهم الأولى.
الجمهور فى السويد من الصعب أن يرى أفلامًا معينة لو لم يعرضها مهرجان معروف مثل «مالمو»، الذى دعمنى فى فيلمى الأخير «أحلام عابرة»، الذى افتتح مهرجان القاهرة السينمائى الدولى هذا العام، ويُعرض حاليًا فى كثير من المهرجانات، وحصد جوائز عديدة.

■ «غزة من المسافة صفر» مشروعك الطموح الذى استطاع توثيق جرائم الاحتلال منذ حرب السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ وحتى الآن.. كيف بدأت الفكرة؟
- الحرب فى فلسطين بدأت منذ إصدار «وعد بلفور»، أى قبل عام ١٩٤٨، لكن فكرة مشروع «غزة من المسافة صفر» جاءتنى بعد الحرب الأخيرة على مدينة غزة لتوثيق جرائم الاحتلال، من قلب الأحداث، أى من المسافة صفر.
عندما تحدث كوارث أو تغيرات سياسية كبرى فى فلسطين، أو مثلًا وقت الانتفاضة أو الاتفاقيات أو الاعتداءات، أنا كمخرج فلسطينى ينبغى علىّ إعداد فيلم عن ذلك، روائى أو وثائقى طويل أو قصير لا يهم، ما يهم هو أن ننتج عملًا فنيًا على مستوى عالٍ من الجودة والإتقان، ومحاولة عرضه فى كل أنحاء العالم كنوع من إثبات الحضور والمشاركة ومساندة بلدى.
لكن الحرب مختلفة هذه المرة بالتحديد، وفى أسبوعها الثانى أو الثالث قلت: يجب أن أصنع فيلمًا عما يحدث، لأن ما تعرضت له غزة من دمار وإبادة وكوارث وفقط لم يحدث من قبل أبدًا. وفجأة قلت لنفسى: هذه المرة لن أفعلها، وبدلًا من ذلك سأنفذ مشروعًا سينمائيًا من إخراج مخرجين ومخرجات من غزة نفسها.
فى نوفمبر ٢٠٢٣، كنت أشارك فى مهرجان الجونة المصرى، وهناك أعلنت عن تنفيذ مشروع سينمائى فى غزة باسم «غزة من المسافة صفر»، وأنشأت مؤسسة كى أستطيع من خلالها إدارة وتنفيذ المشروع، فأصبح لدىّ مؤسسة باسم «مؤسسة مشهراوى» لدعم السينما والسينمائيين فى غزة.

■ مَنْ دعمك فى هذه المؤسسة؟
- إلى جانب التبرعات، عدة جهات دعمتنى بقوة، من بينها الهيئة الملكية الأردنية للأفلام، ومؤسسة الدوحة للأفلام، إلى جانب شركات إنتاج وأصدقاء، خاصة أن الفكرة مبنية من الأساس على أن أستفيد من كل علاقاتى واسمى وخبرتى فى الإنتاج والمهرجانات، وأكون الجسر الذى ينقل كل الذى يحدث فى غزة إلى العالم، كى نخرج من هناك بما هو أكبر وأصدق مما يُعرض فى الإعلام العالمى.
ومشروع «غزة من المسافة صفر» يركز بالأساس على الحكايات الشخصية، ويحاول تقديمها بشكل فنى سينمائى، تلك الحكايات التى لم تُحكَ ولم يعرضها الإعلام، حكايات شخصية مغزولة بفن السينما، ومن ثم عرضها فى أهم المهرجانات السينمائية حول العالم، وتقييمها من الناحية الفنية. فى نفس الوقت، هو مشروع لتدريب سينمائيين وسينمائيات فى غزة، وتعليمهم اللغة السينمائية التى تُمكنهم من مخاطبة العالم بلغته.
بالتالى «غزة من المسافة صفر» صوت لناس ليس لديها صوت، صوت لناس تحاول جهات كبرى إسكاتها فأوفر لها المساحة التى تُمكنها من مواجهة ذلك، صوت يمنع الناس الذين يموتون فى غزة من الموت مرتين، مرة بالرصاص والتفجيرات وأخرى عندما تموت حكايتهم.
من هنا، قررت أن يكون «غزة من المسافة صفر» مشروعًا لتوثيق عما يحدث فى غزة، وإتاحته أمام العالم لكى يراه، وبالتالى يوثق للتاريخ وللمستقبل وللأجيال المقبلة، علمًا بأنه يُدرس حاليًا فى جامعات ومعاهد سينما حول العالم باعتباره نموذجًا لـ«صناعة السينما وقت الحرب».

■ هل يمكن اعتبار «غزة من المسافة صفر» فعل مقاومة على طريقته الخاصة؟
- المقاومة هنا مختلفة، مقاومة بتقديم شىء يواجه محاولات من قوى عظمى لإخفائه تمامًا، فأنت تقدم عملًا يسعى الاحتلال الإسرائيلى وكل داعميه وراء انقراضه، بينما أنت تأتى وتقدمه للعالم أجمع، هذه مقاومة من وجهة نظرى. نحن شعب لديه ثقافة وتاريخ وحضارة وهوية وعادات وتقاليد، وكل هذه أشياء تحافظ على وجودنا فى المنطقة، والسينما تستطيع احتواء كل هذه العناصر، وخدمة الوطن الذى لا يستطيع أحد أن يحتله.
«غزة من المسافة صفر» وقف فى مواجهة خطاب إعلامى إسرائيلى يقول إن الفلسطينيين «إرهابيين ودواعش يغتصبون النساء ويقطعون رءوس الأطفال». كل هذه الادعاءات دحضها هذا المشروع السينمائى، لأنه قُدم فى الأمم المتحدة و«اليونسكو» وجامعة «هارفارد» وجامعة «كان»، وعرضت مواد منه فى ١٥٠ قاعة بالمدارس فى كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا، إلى جانب العرض داخل ٨٠ سينما فى فرنسا.
اليوم، نحن نقود عمليًا حربًا بحد ذاتها، نتحدى من خلالها خطابًا معاكسًا للفلسطينيين والعرب والمسلمين والحق والعدل، حربًا ندافع فيها ضد الاتهامات المغرضة الموجهة لنا، حربًا لا نريد فيها أن نهزم أحدًا أو نحتل أرض أحد، فقط نريد أن نثبت أننا بشر عاديون وهادئون! للأسف، وضعونا أكثر من مرة، ونحن فى ٢٠٢٥، فى موقف نحتاج فيه إلى أن نثبت للعالم بأننا أيضًا بشر عاديون!

■ هل تغيرت هذه النظرة وتلك الأهداف بعد السابع من أكتوبر؟
- نعم، لقد خرجت من هذه النظرة تمامًا، أنا اليوم لا أوافق أن أضيع وقتى لأثبت للعالم بأننا بشر، لا أوافق أن أضيع وقتى لنثبت إنسانيتنا لعالم فشل فى إثبات إنسانيته لى. أكبر دليل على ذلك أننا اليوم نقترب من عامين على الحرب فى غزة، والمجاعة تأكل فينا، وعدد الشهداء يفوق الـ٦٤ ألفًا، إلى جانب عدد أكبر من الجرحى يفوق الـ١٠٠ ألف، فضلًا عن ١٤ ألف مفقود تحت الأنقاض، وأكثر من ٨٠٠ ألف طفل دون مدرسة، ونبحث لهم عن ماء وغذاء ودواء. لذا، هذا العالم فى نظرى فاشل فشلًا ذريعًا، ولن أضيع وقتى معه.
أريد أن أذهب إلى غزة لكى أبنى وأقدم شيئًا للمستقبل، أنا اليوم لا يكفينى أن أصنع سينما، بل أريد فى الوقت نفسه أن أصنع سينمائيين، أريد للحكاية أن تستمر وتظل تغرد وتغرد، ليس كأخبار ولا تقارير صحفية، بل من خلال فن ولغة سينمائية راقية، فنحن فنانون وليس سياسيين ولا عسكريين أو اقتصاديين، وما يحفزنا على وجودنا فى المنطقة هو هويتنا وثقافتنا وتاريخنا. والسينما كفيلة بأنها تحتضن كل هذه الأشياء، ونصنع لنا منها وطنًا لا يستطيع أحد احتلاله.

■ دائمًا ما يُقال إن التاريخ يكتبه المنتصر، وأنا لا أعرف إذا كنا هُزمنا أم انتصرنا فى هذه الحرب. لكن نوثق هذا التاريخ من خلال السينما، لأن السينما لا تكذب، خاصة التسجيلية.. أترى أن لتوثيقنا هذا أهمية؟
- أرى أنه لا يوجد منتصر فى أى حرب، فى العالم كله، فلا يوجد شخص قتل آخر إلا وقتل شيئًا بداخله. وبالنسبة لى المجتمع الإسرائيلى كله أصبح مهزومًا لأنه فقد إنسانيته، كيف له أن يكمل حياته بعد كل ما فعله بحق إنسان آخر، وأقصد هنا الفلسطينى الذى يعيش فى غزة.
لذا دائمًا ما أقول إذا كانت هناك دولتان، دولة فلسطينية وأخرى إسرائيلية، تعيشان جنبًا إلى جنب بأمان وسلام، فأنا أريد أن يكون جارى فى هذه الدولة إنسانًا طبيعيًا وليس مريضًا نفسيًا. أعود وأقول: إسرائيل دمرت نفسها دمارًا ذاتيًا بما فعلته فى الفلسطينيين.
صحيح أن الفقد لدينا كثير والوجع كبير، والبنية التحتية دُمرت بشكل كامل، لكن الشعوب عادة لا تُهزم، لا يستطيعون هزيمتها بالمرة. لدينا ١٠ ملايين فلسطينى، لن يقدروا على قتلنا جميعًا، ولن يقدروا أن يحبسونا كلنا، لذا، وجودنا سيستمر، لا يوجد حل آخر، ولعل هذا ما يجعلنى لا أخاف على الوجود الفلسطينى أبدًا.

■ لكن البعض يحذر من «انقراض» الفلسطينيين، أو قبولهم بالتهجير.. كيف ترى ذلك؟
- كل ما قلته سلفًا ليس شعارات، أنا لا أحب الشعارات، لكن العالم كله رأى الآلاف العائدين إلى بيوت غير موجودة، بعد التوصل إلى الهدنة الأولى، هل يمكن لهؤلاء الذين يبنون خيامًا فوق حطام منازلهم المدمرة قبول التهجير؟ هذا المشهد رسالة للعالم أجمع، نقول من خلالها: هذا مكاننا وهذه بيوتنا، نحن باقون فى غزة وفلسطين، ولسنا الشعب الذى يترك أرضه ولو حطامًا.
لذا، كنت أضحك كثيرًا عندما يأتى الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، ويتحدث عن التهجير، والمشاريع التى يرغب فى تنفيذها داخل غزة، ورغبته فى تحويل القطاع إلى «ريفييرا الشرق». أضحك وأقول لنفسى: «والله أمريكا أخيرًا لقيت لها رئيس ممكن يكون تاجر عقارات، أكثر من رئيس دولة عظمى»! أضحك أكثر وأقول لنفسى أيضًا: «هيك إنت يا رشيد أكيد بتكره غزة، ومش عايزها تكون منتجع عالمى!».
حتى أصدقائى، سواء من السينمائيين أو غير السينمائيين، وكذلك أقاربى، نضحك على هذا العبث.. «اللى مش لاقيين له حل، وهما كمان مش حيلاقوا لنا حل». نحن لا نصارع أو نملك أدوات نتصارع من خلالها ونقول: «هذه الأرض لنا»، الأرض هى التى تقول: «هؤلاء الغزاوية لى أنا»، فهل يستطيعون أن يهزموا الأرض أو الشجر أو الجبل أو البحر؟!
«ستى» التى ولدت فى يافا بثلاثينيات القرن الماضى أكبر من «دولة إسرائيل»، ولديها ذاكرة أكبر من هذه «الدولة»، ولذلك صنعت فيلمًا تسجيليًا عن يافا، لأنى أنا من هناك، جذورى من يافا، ولدت فى غزة لأب من يافا، ودائمًا ما أقول: «إسرائيل حادثة فى حياة فلسطين، جملة اعتراضية إلى زوال».

■ كيف ترى دور موقف مصر من رفض التهجير وإدخال المساعدات الإنسانية وما تتعرض له الآن من مخططات كيدية من قوى الشر أبرزها التعدى على سفاراتها فى الخارج؟
- مصر وضعها ليس سهلًا بالمرة، وهى فى موقف لا تحسد عليه، وتكالب عليها الجميع، ووُجهت لها اتهامات عارية تمامًا من الصحة، ولكن هذا هو الاحتلال، وتلك هى سرديته، وهذا هو التواطؤ الغربى البريطانى الأمريكى معه، وعقلاء العالم يشهدون على ذلك.
وضع مصر بالغ التعقيد، لأنها من جهة تسعى إلى تضميد الجرح الفلسطينى المفتوح، ومن جهة أخرى لا تستطيع أن تكون طرفًا مباشرًا فى الصراع، حتى لا تتفاقم الأمور وتخرج عن نطاق السيطرة، كما أنها لا تقدر أن تلعب دور الوسيط المحايد، لأنها بطبيعتها منحازة إلى القضية الفلسطينية.
يُضاف إلى ذلك أن غالبية الشعب المصرى تقف ضد الاحتلال وتؤيد المقاومة، ما يضع الدولة تحت ضغط كبير من الداخل والخارج فى آنٍ واحد. ورغم هذا الضغط، تبذل مصر جهودًا كبيرة لوقف نزيف الدم، ووقف المجازر، والإبادة، ومخططات التهجير القسرى.

■ هل أنت سعيد بموقف مصر الرافض للتهجير؟
- بطبيعة الحال لم أكن أتوقع من مصر سوى هذا الموقف، أما من يزايدون عليها ويطالبونها باستقبال الفلسطينيين وكأن المطلوب منها أن توافق على التهجير، فذلك مرفوض تمامًا.
مصر تسعى جاهدة لإيجاد حل شامل وعادل يوقف الحرب ويفتح باب الإعمار، واستقبلت بالفعل العديد من الأسرى والمصابين الفلسطينيين، وفتحت مستشفياتها أمامهم. لكن العاطفة المغلوطة أحيانًا تجرنا إلى التفكير بأن مائة مليون مصرى يبعدون عنا بضعة أمتار ونحن نعانى.
غير أن الواقع الاقتصادى لمصر، وتحالفاتها، وعلاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا، كلها عوامل يجب أخذها بعين الاعتبار، لا يصح أن ننظر إلى الموقف من زاوية واحدة، بل ينبغى أن نرى الصورة كاملة من مختلف جوانبها. ولا يمكن أن نغفل أيضًا المساعدات التى قدمتها مصر لغزة عبر معبر رفح، الذى لم يُغلق يومًا فى وجه الفلسطينيين.

■ ماذا عن الانقسام الفلسطينى الفلسطينى؟ وهل تعترف بوجوده؟
- بالطبع.. أنا أنادى يوميًا على «السوشيال ميديا» وفى الأخبار والإعلام، وأقول إن أكبر نكبة نعيشها هى الانقسام الفلسطينى الفلسطينى، فنحن للأسف كيانان وسلطتان ولكن دون أى سلطة.

■ ماذا تقصد بالسلطتين؟ السلطة المعترف بها بطبيعة الحال هى السلطة الوطنية الفلسطينية.. من هى السلطة الثانية؟ هل تقصد بها المقاومة المسلحة فى غزة؟
- يختبئ البعض تحت اسم المقاومة.. وأكبر فصيل يسمى نفسه مقاومًا هو «حماس».. والسؤال المطروح الآن: هل ما فعلته حماس صحيح أم خطأ؟ نحن نؤجل الجواب، لأننى لن أقول تصريحات ترضى العدو الإسرائيلى. العدو الأول والأخير هو إسرائيل، لدينا نحن الفلسطينيين مشكلاتنا الخاصة، ولدينا جراح ينبغى أن نواجهها ونصبر عليها حتى تلتئم، لكن نؤجل ذلك لأن أولويتنا الآن هى وقف نزيف الدم، ووقف المجازر والإبادة ومشروع التهجير.

■ مع وجود هاتين السلطتين: «حماس» والسلطة الفلسطينية، يبقى السؤال: أين المقاومة؟ مَنْ يقاوم؟ وهل هناك مقاومة تسير فى اتجاهين؟
- كان هناك إيمان لدى السلطة الفلسطينية، التى نشأت بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، بأنه بعد ٥ سنوات ستقوم دولة فلسطينية، لكن بعد اغتيال إسحاق رابين، ثم رحيل ياسر عرفات، وصعود اليمين الإسرائيلى إلى المشهد، ضاع كل شىء.
وعلى أرض الواقع، لا يزال الرئيس محمود عباس «أبومازن» يؤمن بأن الوصول إلى الحق الفلسطينى يكون عبر مؤسسات الأمم المتحدة، ومن خلال التصويت والعمل الدبلوماسى، وهو يعارض علنًا أى شكل من أشكال المقاومة العسكرية، بل حتى المقاومة المسلحة ولو كانت دفاعًا عن النفس.
وفى الوقت ذاته، فإن الاتكال على العالم الخارجى لإنقاذنا هو ضرب من الأوهام، والنتيجة أن الوضع على الأرض يتدهور منذ اتفاقيات أوسلو: الاستيطان ازداد، والحواجز ازدادت، والسجون ازدادت، والقتل ازداد، ولا نرى نتائج ملموسة على الأرض جاءت من المقاومة السلمية والدبلوماسية.
ومن ناحية أخرى، أنا كفلسطينى تحت الاحتلال، أنا رشيد مشهراوى، وُلدت فى مخيم الشاطئ، ابن لعائلة لاجئة من يافا إلى غزة ثم إلى مخيمات اللاجئين، أؤمن بأنه طالما نحن تحت الاحتلال، فأنا مع مقاومة هذا الاحتلال بجميع الأشكال، لأن مقاومة الاحتلال أمر بالغ الأهمية، ولكن حماية الشعب أيضًا أمر لا يقل أهمية. فكيف نحقق هذه المعادلة؟ هذا سؤال وجودى فعلًا، كيف نحقق هذه المعادلة؟ كيف أقاوم الاحتلال وأؤسس حركة تحرر وطنى، وفى الوقت ذاته أكون مسئولًا عن حماية شعبى؟ كيف يمكننى أن أحقق ذلك؟

وبما أننا جزء من هذا العالم، وبما أننا بشر، وبما أننا موجودون وشركاء فى الإنسانية على هذا الكوكب، مع عالم خارجى يعلّمنا باستمرار عن حقوق الإنسان، وحقوق الطفل، وحقوق الحيوان، وحقوق البيئة، فإنه رغم ذلك فشل فشلًا ذريعًا فى وقف المجزرة.
لذلك، لا أسمح اليوم لأى جهة أوروبية أو أمريكية أن تلقى علىّ محاضرة عن حقوق الإنسان أو حرية التعبير، لا أسمح، ببساطة لا أستطيع أن أسمح، قد أختار الصمت أو مغادرة القاعة، لأن هذا الحديث بات فارغًا من أى مضمون.
وليس الفلسطينيون وحدهم من يُقتلون فى غزة، بل الإنسانية نفسها تُقتل هناك، لذلك لا أطالب أحدًا بأن يدافع عنا نحن، بل أن يدافع عن نفسه هو فى غزة، كإنسان، وأن يدافع عن إنسانيته هناك.
الإنسان يُقتل فى غزة، ذلك الإنسان الذى تنتمى إليه أنت. فدافع عن نفسك، لا تدافع عنى. سواء كنت أمريكيًا أو أوروبيًا أو عربيًا، اذهب ودافع عن نفسك وعن إنسانيتك فى غزة.

■ فيلمك المقبل مصرى فلسطينى من ناحية الإنتاج.. ما توقعاتك لهذا العمل؟
- الفيلم الجديد إنتاج مشترك بين مصر وفلسطين والأردن، وأنا سعيد جدًا بهذه الشراكة، خصوصًا مع مصر وشركة «ريد ستار»، كما أن وجود منتج مشارك من الأردن يعد إضافة ممتازة. هذا المشروع سيكون فى غاية الأهمية، فهو فيلم روائى طويل، والإنتاج سيكون كبيرًا وضخمًا، وبدأت التخطيط له منذ نحو سنة ونصف السنة.
أنا لا أقبل أن يحتل الاحتلال الإسرائيلى السينما أيضًا، لا يمكن أن نعمل تحت مظلتهم بينما هم يرتكبون المجازر، ثم نتحرك، والأفلام التى قدمتها سابقًا كلها مرتبطة بالاحتلال، وكلها نابعة من واقعنا، وكلها تناولت الحرب.
هذه المرة سنفعّل فعلًا الإنتاج العربى المشترك، وسيشارك ممثلون من مختلف أنحاء العالم العربى. نحن لم نكن فى هدنة يومًا، لا منذ عام ١٩٤٨ ولا قبله، وحتى اليوم. ما دامت إسرائيل تحتل أرضنا، حجرًا حجرًا، وغرفة غرفة فى القدس، وتضيف الحواجز والجدران، فهذه حرب مستمرة بلا توقف.
نحن لم نختبر الهدنة قط، بل نعمل باستمرار ضد الحرب، التى باتت تتخذ أشكالًا متعددة، واليوم لم تعد مجرد حرب أو اعتداء كما اعتدنا من الاحتلال، بل تحولت إلى مجازر وإبادة جماعية.

■ هل تشارك بفيلمك الجديد فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى العام المقبل مثلما شاركت العام الماضى عبر مشروع «غزة من المسافة صفر»؟
- لا يوجد قرار حتى الآن.. لكن الأكيد أننى سأقدم فى كل مهرجان، وإذا أعجبهم المشروع سأشارك.
■ وماذا عن مهرجان الجونة؟
- أعتبر جميع هذه المهرجانات بمثابة ملفات سينمائية حيّة، تنتمى إلى عائلة السينما العربية أو تُقام من أجلها، وحيثما يوجد تآلف أو تعاون أكون حاضرًا دائمًا، فهذا هو جوهرى، وهذا هو تاريخى. الأمر معروف منذ زمن، ومن لا يعرف ذلك، فلن يعرفه فى أى مكان آخر أو فى أى مهرجان آخر.

■ أين المخرجون الفلسطينيون الكبار الآن مما يحدث على الساحة؟
- جميعهم حاضرون على الساحة ويشاركون بفاعلية، على سبيل المثال، المخرجة الفلسطينية آن مارى جاسر تعمل منذ عامين على تحضير فيلم روائى طويل، وقد بدأت بالفعل من داخل الأرض الفلسطينية ومن قلب الواقع، أما إيليا سليمان، فقد زارنا فى الخيمة التى أقمناها فى مهرجان «كان» لعروض «غزة من المسافة صفر»، وكان فخورًا بالمشروع، وأحبه، وعبّر عن دعمه له.
لكننى لا أطالب أحدًا بأن يطلق مبادرات سينمائية مرتبطة بغزة، فالفن السينمائى فعل حى وليس حالة من السكون، أحيانًا ينتج عنه فيلم روائى وأحيانًا تسجيلى، وأحيانًا أخرى يكون العمل فى طور الكتابة أو التطوير أو المونتاج.
ربما طبيعة شخصيتى وطريقتى فى العمل تسمح لى بأن تكون لدينا أفكار تكتب وتُصوَّر وتُمنتَج وتُعرض، حتى فى ظل استمرار الحرب، بينما هناك من يفضل أن يبتعد زمنيًا عن الحدث، ليتمكن من الكتابة أو الإنتاج أو حتى التفكير فى مشروع فنى.

■ عشت فى باريس وعدة مدن فرنسية لسنوات هل تحمل الجنسية الفرنسية؟
- لا أملك سوى الجنسية الفلسطينية فقط لا غير. لدىّ إقامة فى فرنسا تُجدّد كل عامين، وتمنحنى حرية الحركة والتنقل، وهذا كل ما أريده لا أكثر.

■ إذا استطاع رشيد مشهراوى أن ينتج ويصنع سينما خاصة به مختلفة تمامًا عن السائد.. كيف ستكون؟
- لقد وصلت إلى هذه الحالة دون تخطيط مسبق، فالمخزون الذى أحمله كبير، والحرب على غزة هى التى دفعتنى وحرّكتنى، بل هى التى اختارتنى، أنا لا أختار مشاريعى دائمًا، فبعض المشاريع هى التى تختارنى. مشروع «غزة من المسافة صفر» خاطبنى قائلًا: «أين أنت يا رشيد؟ تعال، كفى بكاءً أمام الأخبار على نفسك وعلى أهل غزة، وافعل شيئًا للتاريخ وللسينما».







