فن صناعة الأزمات.. ذاكرة الحرية وتردى الحاضر فى اتحاد الكُتّاب

- إما يستعيد الاتحاد توازنه كبيت للأدباء ومنبر للحرية أو أن يظل أسيرًا لصراعات تفرغه من معناه
- الكيان الذى كان يومًا بيتًا للأدباء لا يجوز أن يتحول إلى ساحة لتصفية الحسابات
فى الثالث من مايو ٢٠١٢، وقفتُ مع زملائى الكُتّاب أمام اتحاد كتاب مصر، أحمل لافتة كتبتُ عليها: «الحرية أساس الفضيلة» و «يسقط خفافيش الظلام، ولا لتكميم الأفواه». لم يكن ذلك المشهد مجرد وقفة احتجاجية عابرة، بل كان فعلًا مقصودًا لاستعادة معنى الحرية فى زمن مضطرب. كان إعلانًا صريحًا بأن الكلمة لا تُكمم، وأن الأفكار لا تُقمع، وأن المثقف لن يُقاد إلى محاكم تفتيش تُعيدنا إلى عصور الظلام. يومها، بدا أن الوطن استعاد وعيه، وأن المثقف استعاد موقعه كحارس للنور فى وجه العتمة.
هذه اللحظة لم تكن استثناءً، بل كانت امتدادًا لمسار طويل من مقاومة محاولات الوصاية على الكلمة. فمنذ تأسيسه، ظل الاتحاد بيتًا جامعًا للكُتّاب وحصنًا للثقافة المصرية فى مواجهة تزييف الوعى وإهدار الإرادة.

منذ تأسيسه، لم يكن الاتحاد مجرد نقابة مهنية تُعنى بشئون أعضائها، بل كان مؤسسة وطنية ذات رسالة أبعد من حدود العمل النقابى. ففى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، لعب الاتحاد دورًا بارزًا فى مقاومة التضييق على حرية النشر، ورفض الرقابة التى استهدفت أصواتًا أدبية وفكرية كبرى. كان منبرًا للنقاش حول قضايا الحرية والإبداع، ومظلة لحماية أعضائه من الضغوط. فى تلك العقود، ترسخت صورة المثقف كضمير المجتمع، لا تابعًا للسلطة ولا موظفًا فى مؤسساتها.
وفى تسعينيات القرن العشرين وبدايات الألفية الجديدة، وجد الاتحاد نفسه أمام اختبار أشد خطورة مع صعود الخطاب المتشدد وتصاعد حملات التكفير والملاحقات العلنية لعدد من المفكرين والأدباء. آنذاك ارتقى الاتحاد إلى مستوى اللحظة، فوقف موقفًا وطنيًا صلبًا مدافعًا عن حق الكُتّاب فى التعبير، رافضًا كل أشكال المصادرة ومحاكمات الأفكار. تحولت قاعاته إلى منابر للنقاش الحر، وفضاءات للمقاومة الفكرية ضد الانغلاق، حتى غدا الاتحاد رمزًا للتنوير وصوتًا للحرية، منحازًا إلى الوطن بقدر ما كان محايدًا عن الاصطفافات الضيقة.
وقد رسّخت هذه المحطات مكانة الاتحاد كأحد أعمدة الثقافة المصرية، ليس مجرد نقابة إدارية، بل مؤسسة وطنية تستمد مشروعيتها من صون حرية الإبداع وحماية كرامة الكلمة.
حين عصفت بالبلاد تحولات سياسية عميقة، وجد الاتحاد نفسه مدعوًا إلى استعادة رسالته التاريخية. ففى عام ٢٠١٢، خرج المثقفون إلى مقره ليؤكدوا أن الحرية هى البوصلة، رافعين لافتات تقول: «الحرية أساس الفضيلة» و«يسقط خفافيش الظلام، ولا لتكميم الأفواه». لم تكن تلك مجرد شعارات، بل كانت تعبيرًا عن إدراك بأن المعركة الحقيقية لا تدور بين أفراد أو تيارات متنافسة، بل بين الحرية ومحاولات القمع، بين الانفتاح والتنوير من جهة، وتيارات متشددة تنجرف بالوطن إلى أفق جماعة ضيقة الفكر من جهة أخرى. واليوم، تبدو تلك الشعارات أكثر راهنية، فى وقت يُحال فيه الكُتّاب إلى التحقيق بتهم لا تزيد عن كونها آراء أو تواصلًا مشروعًا مع مؤسسات الدولة. إن استدعاء المثقفين بسبب كلمة أو مراسلة لا يعيد الهيبة للاتحاد، بل يعيد إلى الأذهان مشاهد محاكم التفتيش التى رفضناها بالأمس، ونرفضها اليوم. لقد جسدت وقفة ٢٠١٢ أن الاتحاد قادر على استعادة دوره متى توحدت إرادة المثقفين على كلمة سواء: الدفاع عن الحرية وثقافة مصر.
اليوم، وبعد أكثر من عقد على وقفة ٢٠١٢، نجد الاتحاد فى أزمة داخلية غير مسبوقة. لم تعد المسألة محصورة فى لوائح أو انتخابات، بل تحولت إلى صدام علنى بين القيادة وعدد من الأعضاء البارزين. بيانات متبادلة، استدعاءات للتحقيق، واتهامات تجاوزت حدود الخلاف المشروع لتصل إلى التراشق العلنى.
وقد بلغ التوتر ذروته مع الشاعر الكبير أحمد سويلم، الذى رفض علنًا إحالات للتحقيق، مؤكدًا أنها مخالفة للدستور وقانون الاتحاد، وأنها محاولة لإسكات الأصوات الناقدة. نشر سويلم بيانات تساءل فيها: «ماذا يريد علاء عبدالهادى؟»، واعتبر أن الاتحاد ليس ساحة لمحاكمة أعضائه، بل بيتهم الذى يجب أن يحتضنهم. والتيار الذى يمثله سويلم ليس شخصيًا أو عابرًا، بل هو صوت قطاع واسع من المثقفين الذين يخشون أن يتحول الاتحاد إلى جهاز تأديب بدلًا من منبر للحوار.
ولم يقف الأمر عند سويلم. فقد أصدر الكاتب والسيناريست عماد يوسف النشار مذكرة مطولة نشرتها الصحافة، تحدث فيها عن أزمة قانونية تتعلق بعضويته، مشيرًا إلى صدور أحكام قضائية نهائية لم تُنفذ. ولم يقتصر الأمر على صوت بعينه، بل تعددت الأصوات من كتاب ومثقفين حذرت من أن استمرار هذه السياسات من شأنه أن يبدد الرصيد الرمزى الذى راكمه الاتحاد عبر عقود، فيتحول من رافعة للعمل الثقافى إلى عبء على الحركة الأدبية نفسها.
هذه الأصوات تكشف عن أن الأزمة ليست مجرد خلاف بين أفراد، بل أزمة ثقة تهدد صورة الاتحاد أمام المجتمع، وتجعل كيانه كله مهددًا بفقدان المعنى.
إن ما يؤسف له أن لغة السجال فى الأزمة الأخيرة خرجت عن حدود ما يليق بمقام مؤسسة ثقافية عريقة، فلم تخلُ ردود وتصريحات منسوبة لرئيس الاتحاد نفسه من حدة وعبارات جارحة طالت رموزًا أدبية كبيرة، وهو ما أثار موجة استياء واسعة فى الوسط الثقافى. مثل هذه اللغةــ أيًا كان مبررهاــ لا تخدم الاتحاد ولا تعزز مكانته، بل تزيد المشهد احتقانًا وتُعمّق الانقسام. إن الاتحاد أحوج ما يكون اليوم إلى خطاب يتسع للجميع، وإلى عودة أعضائه كلهم إلى بيتهم الأول، حيث مائدة الحوار التى تُغلّب المصلحة العامة على الحسابات الخاصة. ومن هنا يبرز الدور المنتظر من وزير الثقافة كوسيط راعٍ للحوار، يقود إلى تشكيل مجلس حكماء يعيد اللحمة ويستعيد للاتحاد صورته التاريخية كمنبر جامع للكلمة، لا ساحة لتبادل الاتهامات.
لقد قلتُ منذ سنوات، فى أحد لقاءاتى الأولى مع الدكتور علاء عبدالهادى، إن الخطر الأكبر على الاتحاد ليس فى اختلاف الرؤى، بل فى تحويل الخلاف إلى أداة للعقاب. دعوتُ إلى تجنيب الاتحاد الانزلاق فى التيارات العدائية أو التأديبية، وإلى أن يبقى بيتًا جامعًا، لا ساحة لمحاكم التفتيش.
وتبقى تجربة الشاعر والزميل سعيد شحاتة مثالًا دالًا على قيمة الحوار. فقد كان فى فترة من أشد المعارضين، لكن الجلوس على طاولة النقاش غيّر موقفه، وحوّل الخلاف إلى توافق، والمعارضة إلى إضافة لرصيد الاتحاد. هذه التجربة البسيطة تُذكرنا بأن الحوار قادر على تحويل الخلاف إلى طاقة إيجابية، بينما التنكيل والإقصاء لا يؤديان إلا إلى مزيد من الانقسام.

إننى لا أكتب اليوم دفاعًا عن شخص ضد آخر، بل أكتب دفاعًا عن استقلالية اتحاد كتاب مصر وصورته أمام المجتمع. فالكيان الذى كان يومًا بيتًا للأدباء لا يجوز أن يتحول إلى ساحة لتصفية الحسابات. وإذا فقد الاتحاد هذه الصورة، فقدنا معه جزءًا من ضميرنا الجمعى.
الأزمة الراهنة تضع على عاتقنا مسئولية مضاعفة: الحفاظ على صورة المؤسسة أمام الرأى العام، وصون قيمتها الرمزية فى زمن تتعرض فيه الثقافة المصرية لضغوط متزايدة. إن الأجيال الجديدة من الكُتّاب تنظر إلى الاتحاد لا بوصفه كيانًا إداريًا، بل بوصفه رمزًا للحرية وفضاء للتنوع.
الخروج من هذه الأزمة يظل ممكنًا إذا توفرت الإرادة الصادقة والوعى بخطورة اللحظة. فالمطلوب أولًا هو حوار جامع يجلس فيه الجميع إلى مائدة واحدة بعيدًا عن الاصطفافات والتجريح، يلى ذلك التزام حقيقى بالشفافية واحترام القانون، إذ لا شرعية لمؤسسة تتجاهل أحكام القضاء أو تتجاوز نصوص الدستور. وإلى جانب ذلك ينبغى إعلاء قيمة التعددية باعتبارها جوهر الثقافة وشرطًا لاستمرار الاتحاد، مع العودة دومًا إلى رسالته الأصلية: أن يكون بيتًا للكُتّاب لا منصة للتنكيل، وضميرًا للثقافة الوطنية لا ساحة للصراع.
إن اتحاد كتاب مصر يمر اليوم بلحظة فارقة. والاختبار ليس بين أشخاص أو تيارات، بل بين خيارين: أن يستعيد الاتحاد توازنه كبيت للأدباء ومنبر للحرية، أو أن يظل أسيرًا لصراعات تفرغه من معناه.
لقد رفعنا فى ٢٠١٢ شعارًا ما زال صالحًا لكل زمان: «الحرية أساس الفضيلة».. «يسقط خفافيش الظلام، ولا لتكميم الأفواه».
هذا الشعار ليس مجرد ذكرى، بل تذكرة أن معركة الحرية لم تنتهِ، وأن الاتحاد مطالب اليوم أكثر من أى وقت مضى بأن يستعيد رسالته: الدفاع عن حرية الإبداع، وصون كرامة المثقف، والحفاظ على صورته كحارس للنور فى وجه الظلام.