معاداة الفكر.. جذور الصراع مع المثقفين فى أمريكا

بعض الكتب التى كتبت قبل عقود تعود إلينا، بأهمية متجددة، فى أوقات حرجة. ومنها: كتاب المؤرخ الأمريكى «ريتشارد هوفستاتر»، الحائز على جائزة بوليتزر عام 1964، «معاداة الفكر فى الحياة الأمريكية»، هو أحد هذه الكتب.
حلل المؤرخ الأمريكى البارز، الذى درس فى جامعة كولومبيا فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، نزعة فى الثقافة الأمريكية، يمكن أن تساعدنا على فهم بعض أسس اعتداءات دونالد ترامب على التعليم العالى والمثقفين والثقافة وحرية التعبير.
معاداة الفكر ليست مجرد مصطلح وصفى، بل هى مفهوم طوره هوفستاتر، بعد دراسته لجذور «عدم احترام العقل على المستوى الوطنى». وقد حفزته الهجمات الشرسة على المثقفين والليبرالية والتعليم العالى التى شنها السيناتور «جوزيف مكارثى»، فى الخمسينيات من القرن العشرين فى حملته الاستبدادية المناهضة للشيوعية، والتى زعم فيها أن «الشيوعيين» يتسللون إلى الحكومة «حتى إن الرئيس أيزنهاور كان مشتبها به».
أرجع هوفستاتر معاداة الفكر إلى المصادر التالية: أولها، الدين الإنجيلى بازدرائه للحداثة والعلم والفكر العقلانى، ثانيها، الفردانية الرائدة بتقديسها الليبرالى للمهارات العملية ومعارضتها للمؤسسية، ثالثها، ثقافة رجال الأعمال المرتكزة على الحياة العملية، سعيًا وراء الثروة والمادية.
وقد توافقت هذه التوجهات فى المقام الأول، مع مواقف وسلوكيات المحافظين الأمريكيين، وجزء كبير من الحزب الجمهورى خلال القرن الماضى.
فى هذه النظرة للعالم، ينظر إلى الأكاديميين على أنهم «ضعفاء، متزمتون، مخنثون»؛ و«أساتذة هارفارد» على أنهم «مثقفون ذوو تفكير منحرف»؛ و«جامعات النخبة هى حاضنة لـالعدو الداخلى وفاسدة حتى النخاع».
وقد أطلق المشرعون المحافظون خطابًا مشابهًا فى جلسات استماع الكونجرس بشأن معاداة السامية فى ديسمبر ٢٠٢٣، عندما اتهموا هارفارد، وجامعة بنسلفانيا، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بأنها «بؤر تعصب غير ليبرالية»، و«مصابة بالفساد الأخلاق»»، وتفتقر إلى «الثقافة الكتابية».
كان استهداف الليبراليين فى الخمسينيات رد اليمين على «الصفقة الجديدة»، ورحبت شريحة من الأمريكيين بـ«نظريات التنمر والمؤامرة» التى أطلقها مكارثى، لأنها أشبعت «رغبة فى الانتقام من النخب الفكرية» - وخاصة أولئك الخبراء الجدد فى الدولة الإدارية.
على الرغم من أن سياسات الصفقة الجديدة، ساعدت الفقراء والسكان الريفيين، إلا أن العداء تجاه المثقفين وطلاب جامعات «آيفى ليج» على الساحل الشرقى، كان عميقًا.
إن تسليح ترامب بمعاداة السامية وذعر التنوع والإنصاف والشمول لتبرير التخفيضات الهائلة فى الميزانية الفيدرالية لا يخفى هدفه الحقيقى: تدمير المؤسسات المنتجة للمعرفة والتفكير النقدى والبحث الفكرى الحر، والتى تشكل تهديدات لجهوده الاستبدادية لتدمير سيادة القانون والدستور.
إنه أمر غير مسبوق. فى أشهره الأولى، كانت هجمات الرئيس ترامب على الجامعات، وخاصة هارفارد وكولومبيا، ومتاحف سميثسونيان، ومكتبة الكونجرس، والجمعية الوطنية للفنون والمؤسسة الوطنية للعلوم الإنسانية، ومركز كينيدى؛ وإنهاء وزارة التعليم، وجهود الرقابة على الصحافة والإعلام ومكاتب المحاماة؛ وحجب الحقائق المتعلقة بالتاريخ الأمريكى من العبودية إلى علم المناخ من مواقع وكالة حماية البيئة والجمعية الوطنية للفنون والمعاهد الوطنية للصحة ومؤسسة سميثسونيان على شبكة الإنترنت، بجانب حظر الكتب فى مكتبات الأكاديمية العسكرية الأمريكية، دليل واضح على أن ما اعتبره هوفستاتر، مظهرًا خبيثًا من مظاهر مطاردة كبش فداء المريرة للسلالات الشعبوية فى ثقافتنا، قد ظهر الآن بشراسة سياسية غير مسبوقة. إن ازدراء هذا الرئيس للتفكير النقدى، مرتبط بأجندة أيديولوجية.
لقد دخلنا فى فصل جديد من معاداة الفكر. كانت المكارثية ظاهرة عابرة، حفزها سيناتور جمهورى مدمن على الكحول، توفى شابًا خلال مسيرة مهنية دنيئة. كان ريتشارد نيكسون، المعادى للثقافة الليبرالية، يود مهاجمة التعليم العالى، وكان حكيمًا بما يكفى ليقول لزملائه الجمهوريين المحافظين، عندما دعوا إلى خفض التمويل الفيدرالى الضخم للجامعات، «إننا سنقطع أنوفنا نكاية فى وجوهنا».
كان هوفستاتر ليدرك نمط ترامب من معاداة الفكر لدى رجال الأعمال. فمن مقاعد المراحيض الذهبية إلى الطائرات الذهبية، يمثل ترامب الرجل المستغل الذى يستغل سلطته كرئيس لجنى المليارات، حتى إنه يصدر عملات معدنية تحمل صورته هو وزوجته، ويروج لبرامج تحويل الأموال إلى عملات رقمية مشفرة لإثراء نفسه؛ وينشر على مواقع التواصل الاجتماعى عبارات مثل «إنه وقت رائع للثراء» أو «إنه وقت رائع للاستثمار».
وقد وثقت ممارساته التجارية الخاصة التى احتالت على البنوك والمقاولين والعملاء. إن مزاعمه بأن جامعات النخبة مليئة بالمجانين والراديكاليين والماركسيين ومعادى السامية والعنصريين، ليست مجرد أكاذيب سخيفة، بل هى دعاية مصممة لعزل شريحة من الأمة عن التعليم العالى، وإلهاء الأمريكيين عن جذور معاداة السامية والعنصرية المتجذرة فى حركة «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، والتى تعرف اختصارًا بـ«ماجا».
لكن بعض الأمور تغيرت منذ أن كتب هوفستاتر كتابه. لو كان هوفستاتر قد أدرك طبيعة ترامب كرجل أعمال فظ ومعادٍ للفكر، لكان عليه أيضًا تحديث تقييمه لمجتمع الأعمال وعلاقته بالأكاديمية.
لقد ولت أيام بارونات اللصوص، الذين اعتبروا التعليم «هراء». فى العقود الأخيرة، كان التآزر الإبداعى بين مجتمع الأعمال والتعليم العالى هائلًا. على مدار الثلاثين عامًا الماضية، زادت التبرعات المالية للجامعات بنسبة ١٧٥٪.
فى عام ٢٠٢٢، قدم القطاع الخاص رقمًا قياسيًا بلغ ٥٨ مليار دولار للكليات والجامعات، أسهم معظمها فى البرامج الأكاديمية والبحث العلمى، بالإضافة إلى تنوع الهيئات الطلابية. تمتد التبرعات التى تبلغ قيمتها مليار دولار إلى نطاق واسع، من كلية ماكفيرسون الصغيرة للفنون الحرة إلى جامعتى ستانفورد وجونز هوبكنز.
بالإضافة إلى ذلك، فإن استقلال الجامعات الخاصة ووضعها الضريبى الذى يشجع التبرعات، يدعم الجامعات المحافظة والطائفية: كلية بوسطن، ونوتردام، وبريجهام يونج، وجامعة ليبرتى، وغيرها الكثير.
إن هجمات ترامب على التعليم العالى هى جهد غير عقلانى لتدمير شريحة من أمريكا، تقوم بعمل هائل من أجل الصالح الوطنى: الأبحاث الطبية المنقذة للحياة، والصحة العامة والسلامة، والتكنولوجيا المتقدمة والهندسة من الجسور إلى أجهزة iPhone - والعمل الأساسى للتفكير النقدى فى الفنون والعلوم الإنسانية والاجتماعية والطبيعية، حيث يتم تدريس حل المشكلات المعقدة وتنمية القيادة لجميع قطاعات المجتمع.
ويشير ستيفن بينكر، أستاذ علم النفس بجامعة هارفارد أيضًا، إلى مدى عمق الشراكة الفيدرالية المتبادلة: «المنحة الفيدرالية ليست صدقات للجامعة، ولا يجوز للسلطة التنفيذية التلاعب بها لإجبار الحاصلين على المنح على فعل ما يحلو لهم. إنها رسوم مقابل خدمة - أى مشروع بحثى تقرر الحكومة (بعد مراجعة تنافسية شرسة) أنه سيفيد البلاد».
ووصف هوفستاتر المثقفين بأنهم «الهوائيات الأخلاقية للمجتمع»، وأشار إلى أنهم من بين جميع الطبقات المتميزة، أظهروا أكبر قدر من الاهتمام المستمر برفاهية الأقل حظًا.
تعد الجامعة الأمريكية محط غيرة العالم، إذ تجذب طلابًا من جميع القارات، لما تقدمه من توجيه مكثف من أعضاء هيئة التدريس، يؤهل الشباب للحياة المهنية والمدنية.
وتعد الجامعة الأمريكية فى القرن الحادى والعشرين، أحد أعظم إنجازات الحضارة الحديثة، وتدمير العلاقة بين التعليم العالى والحكومة الفيدرالية ومجتمع الأعمال، سيعيد أمريكا إلى عصر ضيق الأفق، وهو ما اندثر منذ زمن بعيد.
تعتمد الديمقراطية الليبرالية على منتجيها الفكريين والثقافيين، لمواصلة عملهم بحرية ودعم من المجتمع الأوسع والحكومة الفيدرالية. فإذا دُمرت هذه العناصر، سننزلق إلى استبداد سيحطم ٢٥٠ عامًا من البناء العظيم.
إن قراءة هوفستاتر الآن ستمنح الأمريكيين، نظرة شاملة على مدى أهمية المثقفين لأمتنا، بدءًا من عقول الآباء المؤسسين العظماء، وصولًا إلى القوى العاملة الفكرية اليوم، من كامبريدج إلى سان دييجو، ومن سياتل إلى ميامى.
يجسد كتابه ما يحتاج الأمريكيون إلى معرفته لمقاومة هذه النزعة اللاعقلانية لمعاداة الفكر، حتى نتمكن من الخروج - كما فعل هوفستاتر فى الخمسينيات المكارثية - إلى عصر جديد من النمو الأخلاقى والثقافى الذى أعقب تلك الفترة، وأعتقد أنه سيتبع هذا العصر.