الخميس 23 أكتوبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

فن التزييف.. الذين يروون الأحداث كما يتمنون وليس كما حدث!

حرف

«مسار الملح قصة حقيقية صادقة وملهمة ومؤثرة»، هذا ما جاء فى وصف مذكرات «راينور وين» الأكثر مبيعًا على موقع دار نشرها «بنجوين رندوم هاوس».

وهذه صياغة مؤسفة إذا ما ثبتت صحة الاتهامات التى وجهت لها: فقد زعم تحقيق أجرته صحيفة «أوبزرفر» أن الكتاب الصادر عام 2018- والذى حول مؤخرًا إلى فيلم من بطولة جيليان أندرسون وجيسون إسحاق - ليس كما يبدو. 

تكتب «وين» فى «مسار الملح» أنها وزوجها، موث، استعيد منزلهما بسبب استثمار فى شركة صديق لهما، والذى فشل لاحقًا. ولأنهما لم يجدا مأوى، كما تروى، قررا السير على طول مسار الساحل الجنوبى الغربى، والتخييم فى البرية على طول الطريق، والاعتماد على لطف الغرباء. 

تشير صحيفة «ذا أوبزرفر» إلى أن رواية «وين» عن تشردها غير صحيحة، وتفيد بأنها حصلت على ٦٤ ألف جنيه إسترلينى من صاحب عملها السابق. كما تشكك فى صحة تشخيص موث بحالة عصبية تعرف بالتنكس القشرى القاعدى «CBD»، وهى جزء أساسى من مذكراتها.

ردّت «وين» فورًا على المقال بأنه «مضلّل للغاية»، مضيفة: «نحن نستشير قانونيًا ولن ندلى بأى تعليقات إضافية فى الوقت الحالى». وأكدت أن كتابها يجسّد «القصة الحقيقية لرحلتنا». 

ومع ذلك، بعد صدور التقرير، أنهت جمعية PSPA، وهى جمعية خيرية تدعم الأشخاص الذين يستخدمون الكانابيديول «CBD» وعملت سابقًا مع «وين» وزوجها، علاقتها بالزوجين.

نشرت «وين» بيانًا أكثر تفصيلًا، دافعت فيه عن صدق كتابها، وقدمت تفاصيل أكثر عن الأحداث التى أدت إلى فقدان الزوجين منزلهما. كما قدمت رسائل طبية موجهة إلى زوجها، دفاعًا عن مزاعم تتعلق بمرضه.

ليست هذه المرة الأولى التى تواجه فيها مذكرات مبالغ فى الترويج لها باتهامات بالكذب. فقد تبيّن أن كتاب ميشا ديفونسيكا، المولودة فى بلجيكا، الصادر عام ١٩٩٧، الذى يروى كيف ترعرعت بين الذئاب خلال الحرب العالمية الثانية، مفبرك بالكامل.

أما كتاب «الحب والعواقب» لمارجريت بى. جونز، الذى بيع عند إصداره عام ٢٠٠٨ على أنه القصة الحقيقية لتجربة الكاتبة فى نشأتها كطفلة متبنّاة من أعراق مختلطة فى جنوب وسط لوس أنجلوس، فقد تبيّن أن مارجريت سيلتزر، وهى امرأة بيضاء، تلقت تعليمًا خاصًا، ونشأت مع عائلتها البيولوجية.

ولعل أشهر مثال على ذلك هو كتاب «مليون قطعة صغيرة» لجيمس فراى، وهو مذكرات صدرت عام ٢٠٠٣ عن إدمان المخدرات والكحول. وبعد أن دافعت عنه أوبرا وينفرى عام ٢٠٠٥، تصدّر قائمة نيويورك تايمز لأكثر الكتب مبيعًا وظلّ فيها لمدة ١٥ أسبوعًا. 

وصف الكتاب بأنه «صريح للغاية»، ولكن لاحقًا تبيّن أن أجزاء منه مختلقة. كانت وينفرى غاضبة جدًا من «فراى»، وأخبرته بأنه من الصعب التحدث إليه عندما ظهر فى برنامجها التليفزيونى ليشرح موقفه عام ٢٠٠٦. وقالت: «أشعر بالخداع. والأهم من ذلك، أشعر أنك خنت ملايين القراء».

«كيف استطاعوا الكذب؟» سؤال يطرحه كثير من القراء عندما يثبت زيف مذكرات يحبّونها. لكن هناك سؤال آخر يحتاج إلى إجابة: كيف أفلت الكاتب من العقاب؟ كيف استطاعوا تمرير أكاذيبهم عبر وكيل ومحررين متعددين، وصولًا إلى كتاب منشور يصنّف على أنه قصة حقيقية؟

الإجابة المختصرة هى أنه إذا كذب شخص ما بشأن حياته، فغالبًا ما يكون من الصعب جدًا على الآخرين كشف ذلك. تقول الدكتورة براجيا أجاروال، مؤلفة كتب من بينها مذكرات «الأم» الصادرة عام ٢٠٢١، ومعلمة كتابة المذكرات، إن جزءًا كبيرًا من كتابة النصوص غير الروائية «يتعلق بالثقة بين الكاتب والقارئ. لست متأكدة حقًا من كيفية التحقق من صحة قصة حياة شخص ما بالكامل».

يقول آخرون إنه ليس من دور الناشر التحقق من صدق الكاتب. جريس بينجلى كاتبة ومحررة مستقلة، عملت سابقًا محررة تكليف فى هاربر كولينز. تقول إن دور المحرر «هو مساعدة الكاتب على صياغة قصته بأقصى قدر ممكن من الدقة والإقناع»، وهذا يتطلب الثقة بالكاتب. «فبدون قدر معين من الثقة منذ البداية، يصعب على المحرر والكاتب العمل معا بفعالية».

هذا لا يعنى عدم التحقق من صحة المذكرات. يقول بينجلى: «قبل الحصول على مذكرات، يبحث الناشر فى خلفية المؤلف وقصته للتأكد من صحتها». أى «علامات استفهام حول صحة قصة المؤلف ستكون سببًا لامتناع الناشر عن نشرها».

لكن البحث الذى يجرى فى هذه المرحلة، لا يشمل عادة التحقق ما إذا كان الشخص مسجونًا بالفعل للمدة التى ادّعى أنها كذلك «وهى إحدى أكبر الأكاذيب فى رواية (مليون قطعة صغيرة)»، أو ما إذا كان الزوجان اللذان ادّعا أنهما بلا مأوى يمتلكان عقارًا فى جنوب فرنسا، كما زعمت صحيفة «أوبزرفر» بشأن «وين» وزوجها «وهو عقار وصفته (وين) منذ ذلك الحين بأنه (خربة غير صالحة للسكن)».

قد لا يكون من الممكن اكتشاف هذا النوع من المعلومات إلا إذا كان لدى الناشرين فرق مخصصة لذلك. تقول كاتى لوفتوس، مستشارة النشر والمحررة التى عملت سابقًا فى دار نشر بنجوين رندوم هاوس، إنها لا تعرف أى دور نشر لديها قسم لتدقيق الحقائق. 

وتقول: «باستثناء رواتب كبار المديرين التنفيذيين، فإن النشر يدار بميزانية محدودة. الكتب تجنى أموالًا أقل بكثير مما يعتقد الناس». وتضيف أن لدى الناشرين الكبار أقسامًا قانونية، «والتى ستقدم رأيًا بشأن أى شىء يبلغهم به محرر التكليف، وأحيانًا تجرى قراءة قانونية كاملة عند الطلب». 

لكن المسئولية الرئيسية لتدقيق الحقائق تقع عادة على عاتق محررى التكليف، الذين «يتحملون مسئولية مئات المهام»- من إحاطة مصممى أغلفة الكتب، إلى التفاوض على الصفقات مع المؤلفين، إلى إدارة فرق العمل. التحرير نفسه «غالبًا ما يكون فى أسفل القائمة، وتدقيق الحقائق ليس سوى جزء من عملية التحرير».

حتى فيما يتعلق بالتدقيق القانونى، فإن الشاغل الرئيسى يكمن فى خلو الكتاب من أى شىء قد يؤدى إلى مقاضاة الناشر، بدلًا من تحليل المحتوى الفعلى، كما يقول إيان بلوم، وهو محام متخصص فى الإعلام وعمل فى مجال النشر. ويضيف: «إلى حد ما، لا أحد يهتم كثيرًا إذا أخطأ فى التواريخ والحقائق، طالما لم تكن هناك أى تبعات قانونية».

ويشتبه بلوم فى أن عددًا من مذكرات المشاهير تحديدًا تحتوى على إغفالات أو إضافات. ويضيف: «لا ضرر حقيقيًا إذا أغفلوا بعض جوانب حياتهم»، طالما لم يكن ذلك تشهيرًا بأى شخص آخر.

باستثناء حالات نادرة- مثل عندما نجحت مجموعة من القراء فى رفع دعوى قضائية ضد ناشر فراى، مدعين تعرضهم للاحتيال، لأنهم اشتروا كتابه ظنًا منهم أنه صحيح، واستعادوا ثمن الغلاف- لا يواجه الناشرون عواقب مادية جسيمة على الأكاذيب الواردة فى المذكرات. 

فى الوقت نفسه، عادة ما يلحق الضرر بسمعة المؤلف. يقول بلوم: «عندما يوقع المؤلف عقدًا مع ناشر، عادة ما تكون هناك التزامات تتضمن بنودًا تتعلق بصدق ونزاهة المادة وفقًا لأفضل معرفة المؤلف ومعتقده». يحق للناشر بعد ذلك إلغاء عقد ذلك المؤلف، فى حال تم التشكيك فى صحة الكتاب.

بالطبع، يمكن للمؤلفين تجاوز هذا الأمر بكتابة «روايات سيرة ذاتية» بدلًا من المذكرات: كتب مثل رواية «بطاقات بريدية من الحافة» للممثلة كارى فيشر، المستندة إلى حياتها الخاصة والمصنفة كرواية، أو رواية «شوجى باين» الحائزة على جائزة بوكر للكاتب دوجلاس ستيوارت، لا تتعرض لانتقادات لكونها من نسج الخيال، لأننا جميعًا نعلم أن هذا هو جوهر الخيال. 

فلماذا لم يحوّل مؤلفون مثل «فراى» قصصهم إلى روايات؟ ربما لم تكن الكتب لتحظى بنفس النجاح فى التسويق بهذه الطريقة- ففى عالم مهووس بالجرائم الحقيقية، ندرك جميعًا قوة الرغبة فى القصص الحقيقية. 

يقول بينجلى: «الروايات الذاتية ليست نوعًا أدبيًا راسخًا مثل المذكرات». «لذلك تواجه فرق التسويق تحديات منفصلة فى صياغة هذه القصص ونقلها إلى الجمهور. لقد ثبت تاريخيًا أن «القصة الحقيقية» أسهل فى بناء حملة حولها».

بمجرد صدور أى كتاب عالميًا، غالبًا ما يكتشف الصحفيون والأكاديميون أى أخطاء فيه. لا توجد جهة تنظيمية لصناعة النشر تضاهى منظمة معايير الصحافة المستقلة وهيئة الاتصالات البريطانية «أوفكوم» فى تنظيم الإعلام فى المملكة المتحدة. 

مع صدور ما يقارب ٢٠٠ ألف كتاب سنويًا فى المملكة المتحدة وحدها، يقول «بلوم»: «لا توجد جهة تنظيمية على وجه الأرض تستطيع قراءتها جميعًا.. إنه أمر مستحيل».

فكيف نمنع إذا نشر المذكرات المزيفة؟ فى ضوء مزاعم «مسار الملح»، تثق «بينجلى» بأن الناشرين سيبحثون سبلا لتجنب تكرار هذا السيناريو. وتقول: «إذا بدا مسار السرد محكمًا ومرتبًا لدرجة يصعب تصديقها، فربما يجدر بنا التفكير فى السبب، والاستعانة بمدقق حقائق مستقل للتحقيق».

المشكلة هى أن السرديات المنظمة والمرتبة غالبًا ما تكون بالضبط ما يرغب به العديد من القراء- ومشاهدى الأعمال السينمائية المقتبسة. مذكرات بينجلى، «الفتى المتعرج» لتانيا فرانك، تدور حول أم تتصالح مع تجارب ابنها مع الذهان.

حقق هذا الكتاب نجاحًا تجاريًا أقل من «مسار الملح»، ولكن هل كان من الممكن أن يحقق نجاحًا أكبر لو أن فرانك أنهته بشفاء ابنها، بدلًا من تقبّلها لحالته المتغيرة؟ هذا محتمل جدًا. 

إن الانتصار فى مواجهة المصاعب الطبية مفهوم جذاب، كما سيعرف قراء كتب «وين» من قصصهم عن قدرة موث على التغلب على أعراض مرضه والقيام برحلات طويلة.

نيك ويلسون، صاحبة مذكرات «أرض تحت الأمواج» التى تروى كيف ساعدها العالم الطبيعى على التغلب على مرضها المزمن وتقبّله، تنتقد بشدة فكرة «الشفاء بالطبيعة» التى نراها غالبًا فى الكتب الشائعة عن الصحة. فهى تخلق توقعات غير واقعية بأن ترتيب الأحداث يجب أن يكون «التشخيص، المرض، الشفاء. وأعتقد أن القراء يتوقعون ذلك».

من الواضح أن الكتّاب قد يستفيدون من الرضوخ لمثل هذه التوقعات وتزييف أو حذف بعض حقائق حياتهم. لكنهم أيضًا يخسرون الكثير إذا انكشفت الأكاذيب فى كتبهم: فقد يلغى عقد النشر، ما قد يعنى اضطرارهم إلى سداد دفعة مقدمة، ويخاطرون بعدم رغبة أى ناشر فى الارتباط بهم مجددًا.

عبّرت نان تاليس، ناشرة أعمال فراى، عن استيائها الشديد من الطريقة التى تعرضت بها سمعة مؤلفتها للهجوم. وصرحت لصحيفة «دالاس مورنينج نيوز» آنذاك أن «وينفرى» أظهرت «سلوكًا سيئًا للغاية- لا يعقل أن ترجم شخصًا فى العلن، وهذا ما فعلته».

تقول لوفتوس: «لطالما طاردت الفضيحة المذكرات منذ اختراع هذا النوع الأدبى»، ومن الأمثلة المبكرة على ذلك مذكرات «إفصاحات مروعة لماريا مونك» الصادرة عام ١٨٣٦، وهى قصة حياة شابة فى العشرين من عمرها فى دير بمونتريال، التى وصفت بأنها خدعة. «عمليًا، نادرًا ما يلحق الدعاية ضرر بالناشر أكثر من نفعها، بينما قد تترك حياة المؤلف فى مهب الريح».

هذا لا يعنى أنهم لن يستمروا فى جنى الأرباح: فقد استمر كتاب «مليون قطعة صغيرة» فى البيع حتى فى نسخته الثانية، التى أُعيدت كتابة فقرات منها، وتضمن «ملاحظة للقارئ» تعالج عدم دقته. 

وبغض النظر عما سيحدث بعد الادعاءات الموجهة ضد «وين»، بعد أن باعت بالفعل أكثر من مليونى نسخة من كتاب «مسار الملح»، فقد أصبحت ثرية بفضل هذا الكتاب وأجزائه اللاحقة، وستستمر فى جنى الأرباح طالما استمر الناس فى شرائها.

إن جنى المال- مع تبعات قانونية ضئيلة جدًا- من خلال سرد الرواية الأكثر رواجًا للقصة، بدلًا من الرواية الحقيقية، يجعل من الصعب تصديق أن هذا الجدل سيكون الأخير من نوعه. 

ففى النهاية، لا يمكن لأى مذكرات أن تكون حقيقية تمامًا. يقول أجراوال: «الذكريات عرضة للخطأ وانتقائية؛ فنحن نتذكر دائمًا أنصاف الحقائق، والقصة التى يختار المؤلف سردها ما هى إلا قصة واحدة لموقف معين». 

«لكن ما يريد أى قارئ تصديقه هو أن القصة التى وضع ثقته فيها هى الأقرب إلى حقيقة الكاتب، وأنه لم يضلَّل عمدًا، ولم يتلاعب به. هذا أمر بالغ الأهمية».