عمار على حسن: البعض يحصرنى فى صوت السياسة الزاعق!
- عودت نفسى ألا أكتب للجوائز لأن هذا كفيل بتدمير مشروع أى كاتب، أكتب ما أريد، لأن فى رأسى شيئًا يريد أن يخرج، أو مسارًا أسعى فيه.
- لا يشبعنى فى الكتابة سوى الأدب.. ولم آتِه متأخرًا كما يظن البعض
- بدأت شاعرًا ثم انتقلت إلى القصة والكتابة للجوائز كفيلة بتدمير أى كاتب
- كنت طفلًا «شبه متوحد» متعثرًا دراسيًا فى سنوات التعليم الأولى
- مدرس اللغة العربية قرأ موضوع تعبير لىّ وقال: «ستصير مثل توفيق الحكيم»
فى المشهد الثقافى العربى، يبرز اسم الروائى والباحث عمار على حسن كأحد الأصوات التى جمعت بين الإبداع الأدبى والبحث الفكرى، حيث أنجز ما يزيد على ستين كتابًا، نصفها أعمال أدبية تتنوع بين الرواية والقصة القصيرة والمسرح والشعر، وتوزعت بقية مؤلفاته على النقد الثقافى والاجتماع السياسى والتصوف.
ومع اهتمامنا فى هذا العدد بالبحث عن الفائزين بمسابقة أخبار الأدب للقصة القصيرة كان لا بد من التحدث إليه كواحد من الفائزين عن قصة «طقوس السفر».
فى حواره مع «حرف»، نقترب من عالم عمار على حسن الإبداعى والفكرى، ونحاول استكشاف رؤيته للكتابة ودور المثقف فى زمن التحولات الكبرى.

■ كانت هناك نبوءة قديمة لمدرس اللغة العربية الخاص بك بأن تصير كاتبًا.. كيف ترى هذه النبوءة الآن؟
- أراها الآن من أهم العبارات التى سمعتها فى حياتى. عبارة واحدة نطق بها محفورة فى رأسى كوشم، ماثلة أمامى كدليل.
كانت نقطة نور، سعيت خلفها، أتذكرها حين أشرع فى أول سطر من عمل أدبى، قصة كان أو رواية أو شعرًا أو مسرحية، أو كتابًا فكريًا أو بحث فى العلوم الإنسانية أو نقد لأعمال غيرى، أستعيدها كوصية أو عهد أقسمت عليه يومها صامتًا.
كانت حصة تعبير، فى الصف الثانى الإعدادى، وكان الموضوع الذى كلفنا به هو «نصر أكتوبر»، فكتبت ما طلبه منى وسلمته إياه كما فعل زملائى، فجاء بعد يومين ووزع الكراسات على الجميع ما عداى.
ثم نادى اسمى، فخرجت إليه. وقبل أن أنطق ببنت شفة فاجأنى غاضبًا: «افتح يديك». وكانت العصا ترقص فى يمينه، لكننى سألته مندهشًا عن سبب عقابى، فقال: «من كتب لك هذا الموضوع؟ أجبته: أنا، لم يصدقنى، لكنه جارانى: نعم، أنت كتبته، لكن نقلته من أى مجلة أو صحيفة؟ أجبته فى ثقة: لم أنقله، بل كتبته. نظر إلىّ مستغربًا، وقال: كيف أصدقك؟ قلت له: لحضرتك أن تطلب منى كتابة أى موضوع تريده من الآن حتى نهاية الحصة، ثم تقارن بين الاثنين، فإن وجدت ما كتبته الآن أضعف عما كتبته من قبل فساعتها أكون قد نقلته أو كتبه غيرى لىّ. ابتسم وقال: أصدقك، أنت ستصير كاتبًا وأتمنى أن أراك ذات يوم مثل طه حسين أو توفيق الحكيم أو نجيب محفوظ أو يوسف إدريس.

■ تقريبًا كتبت فى كل شىء.. عبر أكثر من ٦٠ كتابًا توزعت ما بين القصة والشعر والرواية والمسرحية وديوانى شعر والنقد الثقافى والسياسى والتصوف.. أين يجد عمار على حسن نفسه فى كل هذه الأعمال؟
- لا يشبعنى فى الكتابة سوى الأدب، هو وحده الداء والشفاء، ومن بعده كتابة فكرة تبرق فى رأسى، يكون للخيال منها نصيب، فأصيغها فى مقال أو دراسة، أو تكون نواة لمشروع كتاب. أول ما كتبت ونشرت وحصدت مكافأة وجائزة كانت كتابة أدبية، بدأت شاعرًا، ثم انتقلت إلى القصة، لكن صوت السياسة الزاعق جعل البعض يتوهم أننى جئت إلى الأدب متأخرًا، بينما العكس هو الصحيح.

■ حصدت جوائز مصرية وعربية.. لكن هناك بعض الجوائز تكون منحة لصاحبها وأخرى نقمة عليه.. ما رأيك؟
- الجوائز لا تصنع كاتبًا، إلا إذا كان أصيلًا وجديرًا بها، وهى هنا لا تضيف إليه، بل إن بعض الجوائز تتشرف بمنحها إلى الجديرين بها. الجوائز ليست معيارًا لشىء، فهناك أعمال لىّ أراها قوية جدًا وقدمتها لجوائز ولم تحصدها، وأخرى أقل منها حصدت جوائز.
وعودت نفسى ألا أكتب للجوائز لأن هذا كفيل بتدمير مشروع أى كاتب، أكتب ما أريد، لأن فى رأسى شيئًا يريد أن يخرج، أو مسارًا أسعى فيه، وإذا لاحت مسابقة أتقدم إليها، ولأنى أحاول دومًا إتقان عملى فبعضه يحصل على تكريم من هنا أو هناك.
لقد حصلت على جوائز عديدة، فى الأدب والعلوم الإنسانية، منها جوائز محلية وأخرى عربية ودولية، لكن جائزة الكاتب هى أن يجد قراء واعين لإنتاجه، وأن يقدم لمجتمعه ما يفيده.

■ كتبت العديد من الأعمال الروائية المهمة ومنها «جبل الطير» و«شجرة العابد» وأخيرًا «ملحمة المطاريد» فى ٣ أجزاء، والتى تهتم بالإنسان نفسه وبطلها الإنسان عبر ٥ قرون، وتشكل جزءًا كبيرًا من تاريخ مصر.. كيف ترى هذا المنجز؟
- يمكن أن ينظر البعض للملحمة على أنها تطور، من دم ولحم، للمجتمع الريفى والمدينى المصرى عبر خمسة قرون، نرى معها كيف أخذ التحديث يضرب وجه الحياة، فانتقل الناس من الكتاتيب إلى المدراس، ومن الالتزام إلى التملك، ومن السفر عبر المراكب النيلية إلى ركوب القطار، ومن بيوت الطين التى يأكلها الفيضان فى ثوان معدودات إلى بيوت من حجر قادرة على الصد.
تتشرب الملحمة الروح المصرية، عبر ستة عشر جيلًا، وتستفيد مما جرى على الأرض، وتتابع مع الزمن من رؤى وتدابير، وتنفخ فيه من الخيال الكثير، لتجمع بين المعرفة بالريف المصرى فى قرونه البعيدة، والمتعة التى صاحبت رحلة عائلة مسكونة بوعد قديم، وتجلت فى اللغة العذبة التى تلامس الشعر أحيانًا، وتناسب ما يجب أن تتهيأ له الملاحم الإنسانية.

■ تهتم جدًا بالتأريخ فتحكى فى عوالمك عن المجاذيب والمريدين من واقع صوفى.. لماذا؟
- ظهر طرف من تاريخ البشر فى مصر عبر رواياتى «بيت السنارى» و«خبيئة العارف» و«سقوط الصمت»، وعنيت بتاريخ الأشياء فى كتابى القصصى «عجائز البلدة» الذى جمعت فيه حكايات عن خمسة وستين أداة أو آلة بسيطة كانت موجودة فى ريفنا، ثم جرفها التحديث.
وكان زمن روايتى «ملحمة المطاريد» خمسة قرون من تاريخ مصر. مع كل هذا ليس التاريخ الاجتماعى المصرى وحده هو الذى نراه فى هذه الملحمة، فهى ملحمة عن الأمل الذى يجب أن يسكن الرءوس والنفوس، ويلوح دومًا أمام العيون إشارة زاهية تدل على الطريق، مهما اشتدت الأحوال، وتباعدت المسافات، وتتابعت الأزمنة، وضعفت الذاكرة، وتوزعت الأنساب وتفرعت.

■ كتبت عن طه حسين من ٦ زوايا.. وشرحت لماذا استمر تأثيره رغم محاولات تكفيره.. لكن ألا تظن أن هذه الكتابة جاءت متأخرة؟
- لم أشأ أن أكتب عنه كتابًا احتفاليًا أو احتفائيًا كأغلب ما كتب عنه، إنما كتاب يليق به، وعمدت أن يكون شاملًا، ويضيف إلى العميد، ويفتح الأفق بعده لجيلنا وأجيال آتية بعدنا.
تأخر الكتاب رغم أنه يختمر فى رأسى منذ عقود، فلما جاء أوانه، أعطيته كل وقتى، حتى قال لى بعض الأصدقاء فى وقت تأليفه، حين رأونى قد جمعت كل ما يمكن أن أصل إليه عن الرجل: نراك تحمل طه حسين على كتفيك فى كل مكان، وحتى فى نومك يأتيك فى الأحلام ليحاورك. ظل هذا قائمًا يلح على حتى انتهيت من الكتاب، وكم كانت سعادتى حين قال البعض إن من يقرأه يعرف طه حسين جيدًا، ملامح مشروعه، وما أضافه إلى الأدب والفكر والحياة الاجتماعية والسياسية، وما أهمله ولم يتناوله مشروعه ويجب علينا أن نلتفت إليه، وما تركه من أسئلة للآتين بعده وعليهم إجاباتها، وطرح أسئلة أخرى معها وبعدها.

■ كان غريبًا أن تعنون سيرتك الذاتية بـ«مكان وسط الزحام».. هل دلالة العنوان لها علاقة بزحام العاصمة.. أو كأنك تريد التحدث عن الشاب الريفى الذى جاء ليقول للمدينة ها أنا ذا؟
- كان الأمر كذلك بالفعل. كتابى تجربة فى الانتصار على الشدائد، بطلها كاتبها، الذى كان طفلًا شبه متوحد، متعثرًا دراسيًا فى سنوات التعليم الأولى، ثم لم يلبث أن تفوق ليشق طريقه فى التعليم إلى نهايته، ويكون بوسعه أن يحكى لغيره عن أساتذة وقفوا أمامه، وآخرين قرأ لهم، وعن بسطاء الناس الذين تعلم منهم، وكيف واجه الفقر واليأس والغربة والوقوف على مشارف الموت مرات، وكذلك تجاربه فى الأدب والفلاحة والمعمار والصحافة والبحث العلمى والحب والجندية والدراسة والصداقة والزمالة، والكفاح من أجل الحرية والإبداع، والترقى فى العيش.كانت محاولة التغلب على الصعب، وما أكثره، هى الفكرة المركزية، التى انطلقت منها هذه السيرة، والخيط الأساسى، الذى انتظمت على ضفافه، وطوقته دون أن تخفيه، ولهذا أتت من رحلة صاحبها بكل ما يعزز هذه الفكرة من وقائع أو حقائق، وكل ما يجعل هذا الخيط متينًا من أحداث وتفكير وتعبير وتدبير.
وكم أسعدنى الصدى الذى تركته الطبعة الأولى، إذ انبرى كتاب ونقاد وإعلاميون ليتحدثوا عنها، وكُتبت فيها مقالات، وأعدت حلقات متلفزة وعلى «يويتوب»، ورآها قراء درسًا فى الصلابة، وطالب البعض بتدريسها لطلاب المرحلة الثانوية، والتقط آخرون مواقف وعبارات منها، باحثين فيها عن حكمة ومدد، ما اعتبرته تحقيقًا لأحد أهدافها الأساسية.

■ الكثير من الأحداث التى رويتها كل واحد منها كان كفيلًا بهدم عمار على حسن الذى نحاوره الآن.. كيف تنظر الآن لتجربتك فى الصغر وعملك فى أشكال متعددة من المهن؟
- أنظر إلى كل هذا بفخر، بل وامتنان لكل هذه التجارب التى أفادتنى كأديب وباحث فى الاجتماع السياسى وصحفى، وأشعر بامتنان أيضًا لكل ما علمنى كيف أسعى لتحويل المشكلة إلى فرصة، وكيف أواجه الصعاب بصبر وجلد، وأستعمل قانون الماء الجارى، الذى إن وضعت أمامه ما يعترض طريقه ليوقفه، تجمع واحتشد خلفه، ثم فاض فوقه، أو عاود التدفق من جانبه، مُصرًا على مواصلة طريقه.

■ تتابع الأدب فى مصر.. كيف ترى حال الرواية والقصة الآن بعد عقود من ممارسة الكتابة.. ومن تفضلهم من الكتّاب الشباب والكبار؟
- حال الرواية والقصة بخير. هناك أدباء أضافوا إلى الإرث الذى تركه الأولون، وبعضهم تجاوزه فى الشكل والمضمون، لكن المعاصرة حجاب، والمجايلة جدار، وكثيرون مشددون إلى الوراء، يقدسون ما مضى. وأجد بين الشباب ممن أصدروا عملهم الأول أو على بابه كثيرين واعدين، أقول هذا بحكم ما أطالعه لهم فى بعض الأحيان، أو مما يدفعه إلىّ بعضهم لأقرأه وأكتب عنه بعد صدوره، أو أكتب مقدمات له قبل صدوره.

■ تتسارع التكنولوجيا كل يوم.. كيف ترى مستقبل الأدب عمومًا فى ظل هذه المستحدثات؟
- من الورق إلى الشاشة، ومن الكتب إلى الإنترنت، تحول رقمى يؤثر على الأدب دون شك. هذا التأثير يمتد إلى العالم بأسره، لكنه يكون عندنا أشد وأنكى، لأننا، حتى هذه اللحظة لم ندخل إلى الحداثة بعد. وهنا أقول إن الأدب يشتغل على الجمال والتذوق وإشباع الروح، بينما تنتمى التقنيات إلى عالم المادة غالبًا. لا يعنى هذا أن الاثنين فى تصادم بالضرورة، فالتكنولوجيا فى مجال المعرفة أمدت الأدب بموضوعات وقضايا جديدة على رأسها الاغتراب والإيقاع الحياتى الجديد، وكذلك بأساليب مختلفة فى الكتابة، يميل بعضها إلى التكثيف والاختزال. كما خلق التطور فى عالم الاتصال، مع شبكة الإنترنت، فرصًا واسعة للأدباء كى يتواصلوا مع جمهور أوسع، ليس هو بالضرورة الذى كان يقرأ فى السابق الكتاب والمجلة والجريدة، لاسيما مع ظهور الكتاب الإلكترونى والمسموع.
لكن ثورة الاتصال عززت أشكال تعبير أخرى غير الأنواع الأدبية المتعارف عليها، وهى الشعر بمختلف ألوانه، والسرد القصصى والروائى، والمسرح المكتوب والمطبوع، فالآن هناك القصص المحكية فى مختلف الاتجاهات، وألوان من الكوميكس والألعاب الإلكترونية.
ولم يعد الأديب، فى ظل هذا، هو وحده الذى يمتع ويفيد، بعد ظهور اليوتيوبرز وقبلهم المدونين، ودخول كثير من الجمهور العام على عالم التعبير عن الرأى والموقف أو المنافسة على جذب الأتباع عبر مواقع التواصل الاجتماعى.

■ لكن تظل قدرة الإنسان على الإبداع، ربما حتى الآن، هى الأقوى والأكثر أصالة.. فأين هذا الحاسوب الذى بوسعه أن يؤلف «ملحمة الحرافيش» لنجيب محفوظ أو «مائة عام من العزلة» لماركيز أو «العمى» لساراماجو أو «العجوز والبحر» لهيمنجواى، أو يكتب أشعارًا مثل بودلير ورامبو وكيتس وبدر شاكر السياب وصلاح عبدالصبور ومحمد الماغوط؟
الحاسوب يعتمد فى التأليف على ما يغرفه من المخزون الذى كتبه البشر من قبل، وحتى يوجد الحاسوب الذى يملك قدرات العقل البشرى كاملًا، سيظل الأدباء المبدعون، وليسوا التقليديين من الحكائين وناظمى الشعر، لهم اليد الطولى.
فى العموم يمكن لاستخدام التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعى أن يدعم الثقافة، حين يعمل المثقفون على ملء الحيز الذى تخلقه وسائل التواصل الاجتماعى بمعرفة عميقة، ولا يتركون الساحة لهذا السيل من التفاهات الذى يكاد يطمره. وهنا تبرز أهمية إنشاء منصات ثقافية جديدة لتعزيز الإنتاج الفكرى والفنى العربى.

■ ما العمل الذى يعكف الدكتور عمار على حسن على كتابته الآن؟
- لىّ كتاب قصصى جمعت فيه الحكايات الخرافية المصرية، تحديدًا من قريتى وقرى حولها، وأعدت صياغتها بأسلوبى. أطلقت على الكتاب اسم «الأرانب الحجرية.. حكايات خرافية مصرية»، ومن المنتظر صدوره فى معرض القاهرة الدولى للكتاب. وانتهيت من رواية تاريخية تدور أحداثها فى الربع الأول من القرن السابع عشر فى البيمارستان المنصورى، الذى كان أهم مستشفى فى العالم خلال القرون الوسطى، وموجود بنيانه حتى الآن فى شارع المعز لدين الله الفاطمى.

■ كيف ترى معرض الكتاب؟.. وما رأيكفى اختيار نجيب محفوظ شخصية له؟
- رغم أنى مستبعد من ندوات المعرض وفعالياته على مدار السنوات الثمانى الأخيرة فإنى كلما تحدثت عنه تمنيت له نجاحًا مبهرًا وفائقًا يليق بمكانة مصر ومثقفيها. وأى تكريم لنجيب محفوظ هو فعل مستحق، بلا جدال.







