الثلاثاء 16 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

المغربى عبدالكريم جويطى: «الربيع العربى» صُنع فى مكاتب الاستخبارات

حرف

- لا يوجد كاتب عربى لم تمنحه مصر الريش الذى حلق به فى سماء الكتابة

- «أحداث 2011» دمرت أهم العواصم العربية التى كان يخرج منها بصيص أمل

- لم تعرف المنطقة العربية فى تاريخها الحديث أى ثورة حقيقية

- الثورات الحقيقية تحدث فى الفكر والأدب والفن

- العالم العربى يعيش مظاهر حداثة مزيفة ولا يزال محكومًا بمنطق العشيرة

يُعد عبدالكريم جويطى واحدًا من أبرز الأصوات الروائية فى المغرب المعاصر، الروائى الذى ينحدر من مدينة بنى ملال، راكم تجربة سردية غنية ولامعة عبر أعمال لاقت اهتمامًا نقديًا واسعًا، من بينها: «كتيبة الخراب»، و«زغاريد الموت»، و«مدينة النحاس»، و«المغاربة» التى تعد محورًا أساسيًا فى مساره الإبداعى، ونال عنها جائزة المغرب للكتاب «فئة الرواية» سنة 2017.

وفى روايته الأحدث «من يكمل وجه الجنرال؟»، الصادرة مؤخرًا عن المركز الثقافى العربى، يستكمل ملحمته «ثورة الأيام الأربعة»، الصادرة فى 2021، ويصفها مواطنه الناقد إسماعيل غزالى بأنها «رواية مدهشة عن وقائع اليوم الثانى من ثورة الأربعة أيام غريبة الأطوار».

عن مشروعه الروائى، و«منفى اللغة» الذى يرى أن الثقافة المغاربية لم تنعتق منه بعد، واستحضاره لعميد الأدب العربى الدكتور طه حسين فى الرواية، وأثر المكان فى مشروعه السردى، وغيرها من المحاور الأخرى، يدور حوار «حرف» التالى مع الروائى المغربى عبدالكريم جويطى.

■ «ثورة بلا أفكار تغير وجوهًا وتحدث صخبًا وتبنى أوهامًا، لكنها لا تمس الماضى، بل تقويه من خلال تجديده وطلائه بلون المرحلة».. إلى أى مدى تنطبق هذه المقولة من روايتك «ثورة الأيام الأربعة» على ما شهدته المنطقة العربية منذ جلاء الاستعمار الغربى عنها؟

- لم تعرف المنطقة العربية فى تاريخها الحديث ثورة حقيقية، بل هى لحظة قطيعة يولد فيها إنسان جديد بقيم ورؤية جديدة لنفسه وللآخر وللعالم الذى يعيش فيه. عرفت المنطقة العربية حركات تحرر وطنى، وكان أكبر طموح لها هو بعث الماضى العربى كما صنعه الخيال الدينى السياسى، وتجميله بـ«اشتراكيات متهافتة».

عرفت المنطقة كذلك انقلابات عسكرية، سميت هى أيضًا، ونكاية فى التاريخ، ثورات، لكنها أرست قهرًا فوق قهر، وجبروتًا فوق جبروت. العالم العربى، ورغم مظاهر الحداثة المزيفة، ما زال يسبح فى الماضى، وما زال منطق القبيلة والعشيرة يحكم أجزاء مهمة منه.

الثورات الحقيقية تبدأ بأفكار، وتتحول هذه الأفكار إلى قوة اجتماعية، ثم إلى قوة سياسية تعصف بالنظام القائم. كل ما هو ثائر فى التاريخ يُنجز أولًا بداخل الإنسان، حين يؤمن بحريته ويكون مستعدًا للموت من أجلها.

لو لم يكف الأوروبيون يد الدين عن صياغة حياتهم العامة، لما فكروا فى العقد الاجتماعى، ثم إن الثورات الحقيقية تحدث فى الفكر والأدب والفن. أما حين تُعامل شعوب كقطعان تأكل وتنام ويُرفَه عنها، فلا ثورة يمكن انتظارها أو التعويل عليها، هو الماضى فقط حين يتعب من نفسه يلبس قناعًا جديدًا.

■ اتخذت من «أحداث مولاى بوعزة» محورًا لرباعيتك الروائية، التى صدر منها «ثورة الأيام الأربعة» و«من يكمل وجه الجنرال؟». هل تملأ روائيًا ما أهمله التاريخ عن هذه الأحداث؟

- يحتاج التاريخ، الذى هو بارد ككل الأشياء التى تنبش فى الماضى، إلى خيال الروائى لبث الروح فيه، ولنعيشه مجددًا كأنه يصنع أمام أعيننا. الأدب، عمومًا، والرواية خاصة لهما قدرة إعادة بناء الحياة فى تبسيط المشاعر أمامنا والتناقضات واللوعات والآلام والآمال التى حفزت الأفعال. لذا، وأنا أكتب عن «أحداث مولاى بوعزة»، لم أكن أكتب وثيقة، ولا شهادة عن حدث سياسى مهم، فهذا شأن المؤرخ. ما كان يشغلنى هو السؤال التالى: كيف لشاب مثقف وله خبرة ورؤية أن يقدم على تمرد عسكرى ضد الدولة دون أن يكون هناك حد أدنى من الشروط الموضوعية لنجاح تلك المغامرة الدامية؟ منذ «دون كيخوت» والرواية تعلمنا بأنها رفيقة الخيبات والخسارات والأحلام المكلفة والنهايات التعيسة.

■ هل الرواية قراءة متخيّلة لواقع الاحتجاجات المغربية؟ أم أنك تراها خارج هذا التأويل السياسى؟

- فكرت فى كتابة بعض أحداث ما سمى بـ«الربيع العربى»، وهو ربيع كاذب صُنع فى مكاتب استخبارات، وجُندت فيه وسائل إعلامية معروفة، وشهد نفخًا فى الرماد، لتبُعث كل الشياطين الغافية فى قلب المجتمعات العربية، والنتيجة هى تدمير دول، وتقديم أخرى قربانًا لجماعات دينية أو لدول أخرى، وتخريب أهم العواصم العربية التى كان يخرج منها بصيص أمل، وكانت فيها حياة ثقافية وفنية مزدهرة. ما رأيناه كلنا يدمى القلب، ويطرح علينا هذا السؤال الكبير: كيف ننجز التغيير المنشود فى البلدان العربية بدون خراب ودماء وأحزان؟ كيف نحقق تغييرًا ونحن فريسة لأصوليات ترى بأن مستقبلنا يكمن فى ماضينا؟

 ■ هل الروائى مطالب بـ«خلخلة» التاريخ كما وصل إلينا؟ ولماذا لا يفترض أن ما أؤرخ له هو ما حدث بالفعل وليس كما يقال: «التاريخ يكتبه المنتصر»؟

- التاريخ يكتبه المنتصرون كما يُقال؛ لذا فهو الصيغة الرسيمة لمن بقى وراء الآخرين. من يخسر أو يهزم أو يموت لا تاريخ له، لذلك، فى رواية «المغاربة»، انحزت إلى المهزومين، لمن لا صوت لهم، للضحايا. كتبت الرواية فى شكل مواجهة خفية ومُعلنة بين صوتين: صوت الماضى وصوت الحاضر، والمراد من ذلك هو كشف تشكل الهوية المغربية، لا بوصفها سمات ثابتة، وإنما كبناء متواصل وصيرورة يبنى فيها المغربى ويفكك صورته. لا شىء ثابت فى التاريخ.

■ لماذا استحضرت طه حسين دون غيره فى «المغاربة»؟

- قرأت كتاب «الأيام» لطه حسين فى وقت مبكر، وأثر فى كثيرًا، وصاحبتنى شخصية طه حسين المُركَبة طيلة حياتى. وبما أن لدى «رهاب العمى»، وفكرت فى كتابة رواية بطلها أعمى، فقد كان اللقاء مع طه حسين ضروريًا. مات طه حسين محبطًا ويائسًا، ورأى تبخر كل أحلامه فى الرقى بالعقل والمجتمع العربيين. قال أحد عميان الرواية لآخر: «أتعرف لماذا يفعلون بنا كل هذا، لأننا عميان». طه حسين هو البطل التراجيدى لمشروع نهضتنا، فقد حاول وهو فاقد للبصر، وبكل ما أوتى من قوة، محاربة عمى البصيرة، لأنه أنكى وأمر.

■ إذا أعدت عليك سؤال مواطنك محمد الأشعرى: ما معنى الحاجة اليوم إلى «قلق روائى» حول المغاربة؟ ماذا ستكون إجابتك؟

- فى زمن الهويات القاتلة، المنغلقة على نفسها، والمتعصبة لما هى عليه، فى زمن الهوس بالخصوصية، ورؤية العالم من ثقب النفس، يكون قلق الرواية نحو الهوية مشروعًا، ماذا يمكن أن تقدم الرواية لعالم «تتصارع فيه قبائل حزينة» على حد تعبير مفكر فرنسى؟ تملك الرواية أدوات يحتاجها العالم اليوم بشدة: شكوكيتها الراسخة، تنسيبها لكل شىء، إعمالها للسخرية من كل الاجتماعات المصطنعة، تمجيدها للتعدد، ومقتها للصوت الواحد والرأى الواحد والحقيقة الواحدة. قلق الرواية ليس هو القلق العصابى الذى يصرف أعطاب الأنا، وإنما قلق المسئولية والإحساس بالخطر الذى يتهدد دومًا الجماعات والأفراد حين ينغلقون فى فكرة أو مذهب واحد.

■ من جنرال روسى مرورًا بقائد ثورة فيتنامى، لذات الوشوم «حادة»، تتشابك المصائر والمآلات فى روايتك الأحدث «من يكمل وجه الجنرال؟» ذات الطبقات المتعددة. ألم تخش أن يفلت منك القارئ أو يمل فينصرف عنها؟ ولماذا تصر على هذا «التكنيك» الفنى؟

- رغم أننى أكتب عن حدث عاشه المغرب سنة ١٩٧٣، فهدفى الأكبر من الرباعية هو أن أكتب نصًا عن الجبل المغربى، وحضوره فى تشكيل تاريخ المغرب بشريًا وثقافيًا وسياسيًا. المغرب هبة الجبل، مثلما مصر هبة النيل، كما قال «هيرودوت»، وبطل الرواية الحقيقى هو الجبل، وهو الخيط الناظم لكل الحكايات.

ليس من السهل قراءة الرواية، فهى تتطلب من القارئ جهدًا فى إعادة التركيب، والتذكر. أحرك عشرات الشخصيات بمصائرها، وما هو فريد لديها أو مشترك مع الآخرين، وأتأمل وأدعو القارئ للتفكير معى، وأعمل السخرية الرائقة والمرة، ففى النهاية الحياة ملهاة كبيرة على ما فيها من حزن و دموع.

■ إلى أى مدى يتشابه «سيرجى كاساروف» مع «خالد صفوان» بطل «كرنك نجيب محفوظ» و«عباس الزنفلى» بطل «العسكرى الأسود» ليوسف إدريس؟

- السلطة، كل سلطة، سورها من حديد وداخلها من تراب. وراء الجبروت، والفتك بأقدار الناس، والرغبة المرضية فى إخضاعهم وبأى ثمن، يوجد كائن مريض، هش، يواجه أعطاب نفسه بآلام الآخرين. يحتاج «الجنرال» دومًا لمن يكمل وجهه، آلة دعائية فجة، ادعاء، إنجاز، مشاريع مبهرة، سرقة صفات الألوهية. لـ«الجنرال» وجوه كثيرة، فهو الأب، والمربى، والملهم، والبانى، والمعلم... ولا وجه من هذه الوجوه يملأ الفراغ؛ لذا، فى الرواية لا يملك «الجنرال» القدرة على الكلام إلا وهو سكران.

■ لمن قرأت من الكُتَّاب المصريين؟ ومن ترك فيك أثرًا لا يُمحى؟

- عنونت أحد فصول رواية «المغاربة» بـ«فى محبة مصر». لا يوجد كاتب عربى لم يمنحه الأدب والفن المصريان بعض الريش الذى حلق به فى سماء الكتابة. قرأت أهم الروايات المصرية، وأعرف تقريبًا كل أجيال الكتابة الروائية المصرية، ولو أننى أرى بأن أهم جيل مصرى هو جيل الستينيات.

هناك روايات مصرية أعود إلى قراءتها باستمرار: «مالك الحزين» لـ«إبراهيم أصلان»، «فساد الأمكنة» لـ«صبرى موسى»، «المهدى» لـ«عبدالحكيم قاسم»، «وكالة عطية» لـ«خيرى شلبى»، «الطوق والإسورة» لـ«يحيى الطاهر عبدالله»، «عطش الصبار» لـ«يوسف أبورية»، «يا بنات إسكندرية» لـ«إدوارد الخراط»، «كتاب التجليات» لـ«جمال الغيطانى»، و«خالتى صفية والدير» لـ«بهاء طاهر»، «البلدة الأخرى» لـ«إبراهيم عبدالمجيد».

■ «إن اللغة الفرنسية لمنفاى» مقولة مالك حداد.. هل انعتقت الثقافة المغاربية؟  

- خلق الاستعمار الفرنسى ازدواجية مزمنة فى البلدان المغاربية، ازدواجية تتجاوز اللغة إلى كل مناحى الحياة. فالتعليم الخاص النخبوى فرنسى، والتعليم العمومى الذى تتجمع فيه كل الأعطاب محلى. النخب الاقتصادية «مفرنسة» والعمال محليون. التكنوقراط الذين يخططون ويقررون «مفرنسون»، والخطباء والدعاة محليون. الحياة فى الدوائر المخملية فرنسية، وعادات وتقاليد ولغة والحياة الشعبية البئيسة محلية. كل ما هو فاخر ومتأنق ورفيع فرنسى، وكل ما هو ردىء وبئيس محلى.

قسم كبير من نخبنا ما زال يرى فى فرنسا المثال والنموذج والمرجع. وفرنسا لم تعد نموذجًا حتى لنفسها، وهى فى تراجع مهول على كل المستويات. قال كاتب ياسين أيضًا: «الفرنسية غنيمة حرب». كانت الكتابة بالفرنسية، وبحكم نوعية التعليم فى المرحلة الاستعمارية قدرًا لا يمكن تجنبه، أما الآن فهى اختيار. لا أحد مضطرًا للكتابة بها. لم يعد هناك ذلك السياق الضاغط.

بعد الحصول على الاستقلال، اعتقد البعض أن الكتابة بلغة غير وطنية سيندثر مع مرور الوقت. لكنهم لم ينتبهوا لكون الصراع اللغوى ما هو إلى صيغة ناعمة للصراع الاقتصادى وصراع النفوذ وآليات «تأبيد التبعية». أقول بكل أسى: البعض، وبعد عقود من الحصول على الاستقلال، ما زال ينظر بتحقير إلى الثقافة الوطنية، ولكل تجلياتها. وحين تُستحضر لا تُستحضر كثقافة حية وفاعلة، وإنما كفلكلور تزين به الملتقيات!

■ ماذا يمثل المكان فى مشروعك السردى؟

- فى زمن الطفولة نعيش فى المكان أكثر مما نعيش فى الزمان، لذا ذاكرتنا الطفولية مكانية. المكان هو الرحم الثانى الذى نحمله معنا أينما ذهبنا. وبقدر ما يجعلنا الحنين سجناء إلى مكان معين، بقدر ما يجعلنا نبتكر، بدون توقف فى الحلم والكتابة، مكان أو أمكنة طفولتنا.

ولدت فى مدينة بنى ملال وقضيت فيها حياتى كلها دراسة وعملًا، باستثناء أوقات قليلة فى زمن الجامعة. لا أملك إلا هذا المكان لأقدمه للعالم. كل حكاياتى تجرى فى بنى ملال أو فى نواحيها. أحس بأن لدى علاقة سرية ومعقدة مع المكان، وكثيرًا ما فكرت بأن للأمكنة روحًا ماكرة، فهى تختار- أحيانًا- من يتكلم بصوتها، ومن يؤمن لها إقامة داخل اللغة. ربما الأمكنة تحلم أيضًا وتتخيل وتختار من تعيره لسانها.

■ خلال الكتابة هل تفاجئك الشخصيات بتطورات فى الأحداث تفرضها عليك؟ 

- كتابة رواية هى عمل هندسى، يتخاصر فيه التخطيط والتلقائية. لا يمكنك أن تكتب رواية وأنت تهيم فى كل واد تأخدك إليه شخصية من الشخصيات. كما لا يمكنك كتابة رواية وأنت تتحرك كـ«الأوتوبيس»، تنطلق من نقطة وأنت تعرف النقطة التى ستتوقف عندها. الرواية مزيج من هذا وذاك، وكل بمقدار.