الثلاثاء 16 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

شفرة العلمين.. مدحت نافع: لا أريد التفرغ للرواية حتى تظل لدىّ «هواية» لا «صنعة»

مدحت نافع
مدحت نافع

- النحاس باشا كان واعيًا بأن الشماتة فى الإنجليز تنتهى باستعباد المصريين على يد هتلر

- سقوط مصر فى قبضة الناز يين كان سيجعل المصريين فى مرتبة ثالثة بين البشر

- بدأت الرواية فى فترة «كورونا» واستغرقت 4 سنوات كاملة

- مصر أنقذت العالم وكانت قبلة حقيقية لكل النازحين من ويلات الحرب العالمية 

- أعتبر نفسى «عَقّادى الهوى».. واقتبست من القرآن لأنه لا لغة أجمل منه

- لا أحب أن أجلس وأفكر فى فكرة جديدة وأكتبها هى تأتى وحدها

- لا أتبع مدرسة المخرج «تارانتينو» الذى يعيد كتابة التاريخ على هواه

- مكرم باشا عبيد كان يقول: «حفظت القرآن كى أقوّم لسانى»

- أحاول أن أصنع لغتى الخاصة حتى حين أقرأ أعمالى أعرف أنها كتابتى

حين تقع بين يديك رواية الخبير الاقتصادى، مدحت نافع، الصادرة عن دار «الشروق» بعنوان «شفرة العلمين»، قد يُخيل إليك للوهلة الأولى أنها ستغرق فى التقريرية الجافة بحكم خلفية مؤلفها الأكاديمية كأستاذ للاقتصاد وصاحب خبرة طويلة فى أسواق المال. 

لكن سرعان ما يتوارى الاقتصادى ليطل الروائى بقوة، فنجد أنفسنا أمام عمل أدبى يزاوج بين الدقة التاريخية والخيال الفنى، ويعيد رسم واحدة من أكثر الفترات حساسية فى تاريخ العالم.

اختار «نافع» أن يفتح نافذة على الحرب العالمية الثانية من خلال معركة العلمين، تلك المعركة التى قلّما تناولتها الرواية المصرية رغم أهميتها فى تغيير مسار الحرب.

ونسج المؤلف أحداث الرواية من خلال عدد من الأبطال أبرزهم «حسن» العالم المصرى الكبير، الذى تُروى حكايته منذ طفولته ثم شغفه بالكيمياء والتجارب، وصولًا إلى دوره المؤثر فى مجريات الحرب، ثم تتداخل الوقائع التاريخية مع الخيال، لتمنح القارئ تجربة ثرية تجمع بين التوثيق والإبداع وبين التاريخ والإنسان.

«حرف» أجرت حوارًا مع الدكتور مدحت نافع، للحديث عن الرواية، وتجربته الأدبية، وعن رؤيته لكيفية المزج بين الاقتصاد والتاريخ والفن فى عمل واحد.

■ «شفرة العلمين» ثانى عمل أدبى لك.. هل تحدثنا عن مسارك فى الكتابة بشكل عام؟

- كانت رواية «شعيب» تجربتى الروائية الأولى المكتملة، بعد محاولات سابقة فى كتابة قصص قصيرة لم أسعَ إلى نشرها، إذ كان اهتمامى الأساسى منصبًا على الزجل والمقال. 

ففى عام ٢٠٠٦ أصدرت على نفقتى الخاصة كتابًا بعنوان «قبلة الرحّال فى الشعر والأغانى والزجل»، وهو مجموعة مما نشرته فى جريدة الأخبار، حيث كان الأديب الكبير عبدالوارث الدسوقى يخصص لى مساحة للرأى يشرف عليها بنفسه. 

وأذكر أنه ذُكر اسمه فى معركة فكرية شهيرة بين الشيخ الغزالى وعبدالرحمن الشرقاوى حول كتاب «علىّ إمام المتقين»، باعتباره أحد الذين سعوا للإصلاح بينهما.

ذلك الكتاب جمع أشعارى وأزجالى التى كتبتها فى مراحل مختلفة من حياتى، وكان أول إصدار لى، وكنت حينها أصغر عضو فى رابطة الزجالين وكُتاب الأغانى التى ترأسها «أبو بثينة»، ثم تولى رئاستها والدى لاحقًا وكان زجالًا بارزًا. 

والحقيقة أن الزجل متأصل فينا، ومن يكتب الزجل والشعر يميل بطبيعته إلى خوض تجارب أدبية متنوعة. لكن مشكلتى مع الرواية أننى أميل إلى الإيجاز والبلاغة، وهو ما يتعارض مع طبيعتها القائمة على الأحداث والشخصيات، فجاءت كتاباتى أقرب إلى السيناريو منها إلى الرواية التى يحبها القراء.

وقد التقط الأديب يوسف القعيد هذه الملاحظة حين كتب عن روايتى «شعيب»، معبرًا عن خشيته أن تكون تجربتى الروائية الوحيدة، خاصة أننى كنت فى ذلك الوقت رئيسًا لإحدى الشركات القابضة، ما جعل وقتى محدودًا للكتابة. لذلك أطلق على مقاله عنوان «بيضة الديك» لهذه الأسباب. لكن حين نشرت رواية «شفرة العلمين»، عدت إليه ببيضة جديدة، فابتهج وقال إنه سيكتب عنها بلا شك.

■ فى «شفرة العلمين» تتداخل الأحداث والتواريخ بشكل كبير.. كيف نسجت ذلك؟

- المعقد فى رواية «شفرة العلمين» هو ذلك التداخل العميق بين أحداث واقعية وأخرى من نسيج خيال المؤلف، فقد سعيت إلى أن أترك مساحة صغيرة من الغموض أستند إليها لبناء قصة كاملة، لا يمكن لأحد أن ينفيها أو يثبتها بشكل قاطع. وكلما اقترب السرد من الواقع بدا وكأنه يرقّع التاريخ، وكلما اقترب من المادة الأصلية صَعُب على القارئ التمييز بين الحقيقة والخيال. 

حتى إن الناقد الدكتور محمد الخياط سألنى عن مصادر الأحداث معتقدًا أننى اعتمدت على وثائق تاريخية، بينما كانت التفاصيل كلها من صنع الخيال، وهو ما اعتبرته وسامًا لأن قارئًا نهِمًا مثله لم يميز الفاصل بين الواقع والمتخيل.

لكننى لم أتبع مدرسة المخرج «تارانتينو» الذى يعيد كتابة التاريخ على هواه، بل تبنيت نهجًا يقوم على البحث فى مناطق الغموض، فالحرب العالمية الثانية، رغم كثرة ما كُتب عنها، لا تزال تخفى معارك حاسمة مثل العلمين، التى أوقفت المد الألمانى وكانت نقطة تحول كبرى. 

كثيرون لا يعرفون أن المصريين شاركوا فى هذه المعركة، ومن بينهم والدى الذى حارب مع الحلفاء، لذلك أردت أن أعيد لمصر دورها التاريخى بعيدًا عن الإقحام أو الشوفينية، وأن أفتح نافذة على الغموض الذى اكتنف هزيمة روميل «ثعلب الصحراء»، محاولًا أن أجد حبكة تكشف بعض أسرار تلك اللحظة الفاصلة فى تاريخ العالم.

■ أليس غريبًا أن نحتل من الإنجليز ونحارب مع الإنجليز؟

- كانت هذه الرؤية هى رؤية النحاس باشا وحزب الوفد، وهى حقيقة تاريخية مثبتة. فحادثة الرابع من فبراير ١٩٤٢، عندما حاصرت القوات البريطانية قصر عابدين بالدبابات لإجبار الملك فاروق على تعيين مصطفى النحاس باشا رئيسًا للوزراء لم تكن دعمًا لشخص النحاس بقدر ما كانت انتصارًا للمنطق السليم الذى أنقذ مصر من الغرق فى أتون الفاشية، فقد واجهت البلاد معركتين فى غاية الخطورة، الأولى معركة عالمية تهدد بوقوع العالم كله فى قبضة النازيين، وهو ما كان سيجعل المصريين فى مرتبة ثالثة بين البشر، والثانية معركة الاحتلال البريطانى الذى لم يكن يعنيه سوى نهب ثروات مصر، لكنه على الأقل كان يتعامل مع المصريين كبشر، بخلاف التمييز الفاشى والنازى الذى اعتبر الشعوب الأخرى أدنى من الجنس الآرى.

وهنا برزت حكمة الساسة الكبار، وفى مقدمتهم النحاس باشا، الذى أدرك مبكرًا أن قاعدة «عدو عدوى صديقى» لا تصلح فى هذا السياق، وأن الانتصار للإنسانية أولًا هو الطريق الصحيح. لذلك انحازت مصر إلى الحلفاء، وهو موقف ساعدها لاحقًا فى دعم استقلالها. فكيف يمكن لدولة أعلنت الحرب على ألمانيا أن تتحالف معها كما فعل بعض المتحمسين لروميل، وهم يتوهمون أنه سيحررهم بينما كان هدفه احتلالهم؟

لقد كانت معركة العلمين نقطة فاصلة، فهزيمة ألمانيا هناك أوقفت المد النازى، ومع نفاد مواردها الاستراتيجية مثل الحديد، أدركت بريطانيا أن الرايخ بدأ ينهار، خاصة حين صارت القنابل التى تسقط على لندن مصنوعة من معادن رديئة بدلًا من الصلب. وهكذا تجلت أهمية العلمين وأهمية مصر فى الحرب.

أما الملك فاروق، فقد كان شابًا وطنيًا يكره الإنجليز مثل معظم المصريين، فانحاز للألمان نكاية فى الاحتلال، لكن هذه لم تكن حكمة الكبار. فالنحاس باشا كان واعيًا بأن الشماتة فى الإنجليز قد تنتهى باستعباد المصريين على يد هتلر، المستبد الذى لم يتورع عن إحراق الشعوب.

فى الرواية، يظهر «الدكتور حسن» وهو يستلهم هذا المنطق، فمع أنه وجد دعمًا من أستاذه الإنجليزى، إلا أن جوهر الأمر كان انتصارًا للعلم، وهو ما دفعه إلى اختيار مساره وفق قناعاته وإدراكه طبيعة الصراع. ومع ذلك، تبقى الرواية فى جوهرها رومانسية تاريخية إنسانية، تحمل بُعدًا سياسيًا ضمنيًا، لكن دون أن تفرض انحيازًا مباشرًا على القارئ، تاركة له حرية التأويل.

■ غابت معركة العلمين وتفاصيلها عن معظم المراجع.. فإلى أى مراجع استندت فى تقديمك للرواية؟

- كان هذا الجزء بالفعل من أصعب مراحل الكتابة، إذ إن كل ما كنا نراه آنذاك هو عمليات تطهير الأرض من الفخاخ والألغام، وقد استغرقت كتابة الرواية ٤ سنوات، خصصت جزءًا كبيرًا منها للدراسة والبحث، حيث عدت إلى تفاصيل عديدة ومصادر متنوعة تناولت الحرب العالمية الثانية، وبخاصة معركة العلمين.

حين يقرأ القارئ الرواية سيجد أن بعض الأحداث وردت بتواريخها الدقيقة، لأنها جاءت على لسان شاهد عيان، وكان لا بد أن تكون المعلومات الواردة حقيقية وموثقة. 

درست المعركة دراسة عميقة ومفصلة، وحرصت على أن تكون التفاصيل دقيقة، حتى فى ذكر نوع السيارات المستخدمة آنذاك أو أسماء الشوارع. فأنا أكن احترامًا كبيرًا للقارئ، وأحرص على أن يجد فى النص ما يثبت صدقيته، مثل الحادثة التى رويت فيها كيف مات والد ووالدة «آرثر»، وهى واقعة حقيقية تمامًا.

أما المرحلتان الرئيسيتان فى الرواية، مرحلة آرثر ومرحلة حسن، فهما متقاربتان زمنيًا، لا يفصل بينهما سوى ٥ سنوات، لكنها سنوات حبلى بالأحداث الكبرى التى غيرت وجه العالم. 

فى تلك الفترة اختفى أشخاص وظهر آخرون، بل إن البطل الأصلى نفسه اختفى دون أن يُعرف له أثر، وهو ما شكّل الصعوبة الأساسية فى السرد. ومع ذلك، فإن طول الفترة يمنح الكاتب مساحة خصبة لابتكار أحداث وتصورات جديدة، وقد كنت ملتزمًا بشدة بالبقاء داخل حدود هذه الحقبة التاريخية.

■ كيف استفدت من وجود والدك فى الجيش بالإسكندرية خلال الفترة التى دارت حولها الرواية؟

- والدى كان يخدم فى حامية للجيش بالإسكندرية وقت الحرب العالمية الثانية. وقتها الجيش المصرى كان متحالفًا مع الإنجليز. والجيش المصرى وقتها كان به الكثير من الأتراك والإنجليز. كما أن هذه الفترة تميزت بوجود مصريين يدرسون فى جامعة «كامبريدج» الإنجليزية.

من بين هؤلاء خال والدى، غالب بك المهندس، الذى درس فى الجامعة العريقة قبل الحرب العالمية الثانية، درس هناك الهندسة على وجه التحديد، ثم عاد إلى مصر، فى فترة قريبة جدًا من الفترة التى تدور حولها أحداث الرواية.

وخال والدى هذا هو الزجال الأكبر فى العائلة، حتى إنه كتب أغنية لكوكب الشرق أم كلثوم وغنتها فى بداياتها، وهذه معلومة لا يعرفها كثيرون. كان محبًا لـ«الست»، لذا لم يبع لها هذه الأغنية، ولم يتقاضَ أجرًا عليها. وهو أحد الأسماء القديمة فى تأليف الشعر الغنائى والزجل، حتى قبل الزجال الشهير محمد عبدالمنعم المعروف بـ«أبوبثينة» وغيره.

■ الرواية لا تخلو من دراما معتمدة على قصة حب «أدريانا» و«حسن»، وكيف أنها تركته وأحبت صديقه، ثم سافرت إلى «كامبريدج» لتقابله هناك.. هل قصدت ذلك؟

- الفكرة بالنسبة لى هى خيط تحاول نسجه. لذا، عند كتابة الرواية، يكون لدىّ عدد كبير من الاحتمالات لكل الأحداث. بداية الحدث يمكن أن تأتيك فى خاطرة، وهذه الخاطرة أنت تنسجها وتشدها بشكل رهيف، ومتى شعرت بأنها تنشد بقوة تتركها لكى تختمر، وهذا ما جعلنى أكتب هذه الرواية فى ٤ سنوات كاملة.

لم أرد أن يكون الأمر مثل صنعة وصانع، بل أردت أن تتضافر الأحداث وتنصهر بشكل جيد وطبيعى. أنا أبدأ الحدث لكننى لا أعرف كيف ينتهى. وبينما كان لدىّ تصور لنهاية الرواية، هناك تفاصيل فاجأتنى أنها على خاطرى. وفى كل الأحوال، كان من المهم أن تلتئم خيوط الرواية، فأنا لا أريدها قصصًا قصيرة منفصلة، بل رواية بكل تطوراتها.

أما ما يتعلق بسؤالك عن الدراما، أرى أن الرواية يمكن أن تخرج من السياق التاريخى إلى سياق رومانسى أو اجتماعى. لذا كان التركيز على المدن، أن تشعر بها فى الأحداث، خاصة الإسكندرية، تلك المدينة الـ«كوزموبوليتانية» التى تتسع لمختلف الثقافات والشعوب.

والرواية كان فيها أيضًا انتصار لقيمة مصر التاريخية التى لا يعرفها الكثيرون. وكان ذلك بشىء من التاريخ وشىء من الخيال، فالحبكة نفسها فيها الكثير من الخيال. وهل حرام مثلًا على مصر أن تقدم بطولات تنقذ العالم، كما تفعل أمريكا فى معظم أفلامها؟!

■ كيف قدمت مصر فى الرواية باعتبارها «منقذة للعالم»؟

- مصر كانت قبلة حقيقية لكل النازحين من ويلات الحرب، من إيطاليا واليونان وغيرهما. مصر قامت بدور المنقذ بحق فى هذه الفترة، التى كان تشهد صعوبة فى إيجاد عمل، كما حدث مع والد «أدريانا»، الذى لجأ للنزوح من إيطاليا إلى مصر، حيث كانت تُقام «بورصة مينا البصل»، باعتبارها واحدة من أكبر ٥ بورصات على مستوى العالم.

ومما يدل على ذلك، أن «الأزاريطة» جاءت من كلمة إيطالية هى «لازاريتا»، بمعنى «حجر صحى»، إذ كانت مكان الكشف عن صحة الأجانب اللاجئين إلى مصر، كما كانت أمريكا فى بدايتها تستقطب سكانًا من أوروبا، وهم من بنوها فى النهاية، حتى إنها قديمًا كانت تسمى «سجن أوروبا»، لأنها كانت منفى للأوروبيين.

وهذا التنوع مهم جدًا، وانتصر لفكرة قبول الآخر، وهى ثقافة موجودة لدى المصريين قديمًا، لكننا الآن نلفظ هذا الآخر ولا نتقبله.

فى هذا الوقت، حدثت خلخلة غيرت العالم كله، والعلماء الألمان هم من بنوا روسيا، ثم أمريكا فيما بعد، وبالتالى العالم كله استفاد من هذه الفترة. لكن جاءت نظرية «مالتس»، التى تقول إن السكان يزيدون بمتوالية هندسية، والغذاء والموارد تزيد بمتوالية عددية، أى أن الغذاء سينفد والناس سيصبحون أكبر منه، ما سيدفعهم للاقتتال فيما بينهم لإحداث توازن.

ورغم أن الاقتصاديين رفضوا هذه النظرية، ثبتت صحتها فيما بعد، فلولا الحربان العالميتان الأولى والثانية لما حدث التوازن. لا نقول إن هذا شىء جيد، لكنها حقيقة وواقع. الصين حين مات فى مجاعتها ٤٠ مليونًا حدث توازن، هل هو توازن محبب؟ فى الاقتصاد لا يهمنا، لأننا نقر واقعًا، وطبقًا للواقع حدث شىء من التوازن، صحيح أنه كان عنيفًا، لكنه بنى الديمقراطيات على أشلاء الراحلين!

■ وماذا عن لغة الرواية، وسر الاستعانة بالتناص القرآنى فى ٣ مواضع؟

- فى الحقيقة أنا نشأت محبًا جدًا للمفكر الكبير عباس محمود العقاد، وأعتبر نفسى «عقاديًا». ورغم أنه لم يعرف عنه المهارة فى الرواية وكتابتها، فلم يكتب سوى رواية «سارة»، لكنه كان شاعرًا كبيرًا ومفكرًا قديرًا، وحين تقرأ له تجده «مغذيًا للغة»، خاصة فى «العبقريات»، الذى لا أعتبره إضافة للمكتبة الإسلامية بقدر ما هو إضافة للمكتبة الأدبية.

أحببت أسلوب «العقاد»، وهو أسلوب بلاغى جدًا، لا تستطيع أن تتقيد به لأنه ملك لزمنه، لكن البلاغة لديه بكلمات قليلة تقول ما تقول، وأنا أحب اللغة العربية، وأجد فى القرآن الكريم النص الجامع والأعظم للغة، لذا حين أقتبس عبارات منه أقتبسها عن قناعة بأنه لا يوجد وصف لأجمل من هذا.

ومما يُحكى فى ذلك، أن «العقاد» كان لديه صديق يقتنع تمامًا بأنه لا توجد كلمة فى العالم ليس لها أصل فى القرآن، وفى إحدى المرات، كان مع أصدقائه فى بورسعيد، ومرت باخرة كبيرة كان مكتوبًا عليها «كوك»، فسألوه: هل هناك أصل لكلمة «كوك» فى القرآن فرد وهو يشعر بانتصار كبير: نعم، «وتركوك قائمًا»!

كل شىء أحصاه الله فى القرآن، وأديبنا العظيم مكرم باشا عبيد كان يقول: «أنا حفظت القرآن كى أقوّم لسانى»، وهو مسيحى، لكنه وجد فى القرآن مصدرًا لتقويم اللسان.

واللغة دائمًا ما تحير الكاتب، حتى إنها كانت هاجسًا لنجيب محفوظ نفسه. وأنا لا أريد أن أتقيد بنمط معين، خاصة أن جزءًا كبيرًا من الأعمال الأدبية بها قوالب لفظية متشابهة ومكررة، لذا أحاول أن أصنع لغتى الخاصة وأسلوبى الخاص، حتى حين أقرأه أعرف أنها كتابتى.

■ كتب الأطباء فى الأدب، مثل يوسف إدريس ومحمد المخزنجى وغيرهما، لكننا لم نسمع أن خبراء اقتصاديين كتبوا رواية، فى ظل مجالهم المغاير تمامًا للكتابة الإبداعية.. كيف كسر مدحت نافع هذا؟

- بدأت كتابة «شفرة العلمين» فى فترة «كورونا»، وقتها كنت رئيسًا للشركة القابضة للصناعات المعدنية، وكان الشغل قليلًا، وبالتالى تتوافر مساحة للكتابة، التى استغرقت منى ٤ سنوات، كما سبق أن ذكرت. وللعلم تركت الرواية عامًا كاملًا لم أقربها، قبل أن أرجع وأقرأها مرة أخرى وأعايشها، وأشد الخيوط لمساراتها المختلفة. وبصفة عامة، أعتقد أننى لو تفرغت للرواية لن أكتب بشكل جيد، لأن التفرغ يجعل الأمر «صنعة» وأنا أريدها «هواية».

■ لكن ترك الرواية يفيد فى اختمار الفكرة أو حتى سيرها فى اتجاه آخر بخلاف ما نويته.. هل حدث هذا معك؟

- نعم، حدث هذا بالفعل، وغيرت أفكارًا، وكذلك خاتمة لبعض الفصول. كما أننى قرأت كثيرًا عن الحرب العالمية الثانية، وساعدنى هذا فى بناء الحبكة.

■ بعد «شعيب» و«شفرة العلمين».. هل بدأت فى رواية جديدة؟

- لم أكتب أى شىء فى رواية جديدة، لكننى أكتب مقالات نصف شهرية وشهرية فى صحف مختلفة، والمقال الواحد ١٨٠٠ كلمة، وأكتب بواقع ١٥ مقالًا شهريًا، إلى جانب الأوراق والتدريس. لكن حين تأتى فكرة رواية جديدة، هى التى ستجبرنى على وضع البذرة وبدء الكتابة. لا أحب أن أجلس وأفكر فى فكرة جديدة وأكتبها، الفكرة تأتى وحدها.

■ بما أنك خبير اقتصادى معروف.. كيف ترى حال القراءة فى مصر؟ وهل تأثرت بالاقتصاد؟

- هذه مسألة مركبة، وأول ما يرتبط بها تعدد مصادر المعرفة، فإلى جانب الكتاب هناك الإذاعة والسينما، قبل أن ندخل إلى عالم «الدش» والقنوات الفضائية، وكل هذه وسائل نافست الكتاب. ومع ذلك، ليس هذا هو السبب فى تراجع القراءة، بل السبب فى رأيى طبيعة التعليم، الذى لا يحض على القراءة. بينما نموذج التعليم قديمًا، وخاصة التعليم العالى، كان يحض على القراءة وبقوة، إذ كان لا بد للطالب أن يطلع ويقرأ. بينما الطلاب لا يحتاجون إلى كتب الآن سوى فى مرحلة الدراسات العليا!

تراجعت الكتابة، وتراجعت القراءة، ووراء ذلك جانب اقتصادى بالطبع، لأن المطابع أصبحت مُكلفة، والورق بأسعار مرتفعة، لذا نشاهد جرائد تُغلق، ومؤلفات تطرح بكثرة ولا يبيع صاحبها. الجزء الاقتصادى مهم جدًا، إلى جانب «الديجيتال»، الذى سهل للناس قراءة روايات مسروقة. 

لا أحد يستطيع الجزم إن كانت القراءة انحسرت أو زادت، فلا يوجد حصر دقيق لذلك، لكن أنا متفق فى أن القراءة فقدت عرشها الكبير، وهو ما تراه فى شاب جامعى «يتهته» أثناء القراءة!

■ هل هناك قراءات أو روايات علقت بذهنك فى الفترة الأخيرة؟

- أنا قارئ جيد فى الجانب الأدبى. لكن ليس لدىّ كاتب معين أتابعه. حديثًا قرأت «حروب الرحماء» للكاتب إبراهيم عيسى، و«أنا قادم أيها الضوء» للصحفى الراحل محمد أبوالغيط، والذى أعتبره عملًا أدبيًا رغم أنه قصة معاناة. كما قرأت كذلك بعض كتابات أسامة عبدالرءوف الشاذلى.

■ على ذكر روايتك الأولى «شعيب».. ما تجربتك معها؟

- كانت روايتى الأولى وتحمل الكثير من التأثر بالتجربة الذاتية، وفيها استفدت من خلفيتى الاقتصادية وفهمى لسوق المال، ليس عبر استعراض المعلومات، بل من خلال خوض غمار هذا العالم المعقد. فأنا متابع جيد للأفلام، ولاحظت أن صورة البورصة فى السينما العربية لم تكن واقعية، من مشاهد إسماعيل يس وهو يضحك قائلًا «البورصة وقعت فهتموت الناس»، إلى الأفلام الحديثة التى تختزل الأمر فى سهم صاعد وآخر هابط. 

لذلك رغبت فى تقديم معالجة مختلفة، تكشف عالم مخالفات سوق المال وآليات ضبطه، وكيف ارتبط هذا المجال بالنسيج السياسى والاجتماعى قبيل الثورة، خاصة مع القضايا التى طالت ابنى الرئيس الأسبق مبارك والمتعلقة بسوق المال، هذه كانت ملامح تجربتى مع «شعيب».

■ ما توقعاتك لمستقبل الكتابة والقراءة فى ظل المستحدثات التكنولوجية وآخرها «الذكاء الاصطناعى»؟

- كتبت عن التحولات الكبرى فى الاقتصاد كتابًا كبيرًا، كتب مقدمته الدكتور محمود محيى الدين، وسوف يُطرح فى مصر قريبًا بالتزامن مع معرض القاهرة الدولى للكتاب، ومن ضمن هذه التحولات التحول الرقمى، الذى سيدخل فى كل شىء، وسيؤثر فى الأدب وغيره. 

كنت منخرطًا منذ فترة فى أمر يتعلق بـ«استوديو مصر»، والآن، مع التحول الرقمى، لم يعد لها لزوم! قطاعات كثيرة تغيرت بفعل التحول الرقمى. والخوف من دخول «الذكاء الاصطناعى» فى مجال الإبداع مرده أن البعض أصبح «يستسهل» اقتحام عالم الكتابة. وما دام عالم النقد ليس مواكبًا لهذه المستحدثات، ولم يعد بالحرفية التى كان عليها، سيصعب على الناقد اكتشاف الفروق بين الكتابة الإنسانية والآلية.

فربما يكون الأمر سهلًا على الناقد المتمرس، فى الكتابة الإبداعية. لكن فى الكتابة العلمية الأمر أصعب بكثير. فى رسائل الماجستير والدكتوراه نحن كأساتذة جامعة نعانى كثيرًا من ذلك. ورغم أن هناك منصات تكتشف المكتوب بـ«الذكاء الاصطناعى»، ظهرت أساليب جديدة للتحايل. أنا أُدرس مناهج بحث، وأواجه معاناة فى اكتشاف النص الأصلى.