الفنانة الأمريكية باتشمان: حتى البرمجيات تتعامل مع فلسطين كمصدر إزعاج!
- كتابى «فن التحدّى» وثيقة مقاومة فى صراع الفلسطينيين من أجل تقرير المصير
- الكتاب ركّز على الشعراء الذين يعيشون تحت الاحتلال أو النزوح أو فى المنفى
- الناشرون رفضوا المشروع بسبب الرقابة فى الولايات المتحدة
فى تقاطع الفن مع المقاومة، تبرز تجربة الفنانة التشكيلية والمصورة ومصممة الجرافيك والناشطة الأمريكية إس. إيه. باتشمان كصوت فنى يصر على أن الإبداع يمكن أن يكون أداة للعدالة الاجتماعية.
أحدث مشاريعها، كتاب «فن التحدّى: رسوم وشعر احتجاجى من أجل فلسطين»، يمزج بين القصائد الفلسطينية ورسومها الجرافيكية، ليقدّم شهادة بصرية وشعرية على صمود الشعب الفلسطينى فى مواجهة الاحتلال، ومحاولات طمس الهوية والثقافة.
فى حوارها التالى مع «حرف»، تكشف «باتشمان» عن دوافعها وراء هذا العمل، وتروى تفاصيل التحديات والمعوقات التى واجهتها فى رحلتها الإبداعية، مؤكدة أن الفن ليس مجرد تعبير جمالى، بل فعل مقاومة ووسيلة لإبقاء الذاكرة حيّة.

■ صدر كتابك «فن التحدّى» مؤخرًا وهو قصائد مقاومة للشعراء الفلسطينيين مضافة إلى رسومات لك.. ما الفكرة الأساسية التى دفعتك لتجميع هذا المشروع؟
- المحرك الأول لكتاب «فن التحدّى: من واقعين متلازمين»، رؤية قديمة صاغها مديرا مسرح الحرية، جوليانو مير- خميس وأحمد طوباسى. حين تنبّآ بأن الانتفاضة الثالثة ستكون انتفاضة ثقافية وفنية. وأعلنا: «سنقاتل بالمسرح، بالفن، بالموسيقى، بالرقص، وبالشعر».
أما المحرّك الثانى فكان وحشية الإبادة الجارية فى فلسطين، بينما يكرر قادة العالم السردية الإسرائيلية، وقد بدا هذا التواطؤ على النقيض تمامًا من الاستجابة الاستثنائية التى أظهرها الفلسطينيون وحلفاؤهم. فى تلك اللحظة سألتُ نفسى أين يمكن أن يكون لجهدى أثر أبعد من تصميم الملصقات والاحتجاجات والتفاعل عبر وسائل التواصل الاجتماعى، وحملة المقاطعة؟.
وقررت أنه من الضرورى حمل هذه الأصوات إلى ما وراء الحصار، وما وراء الخوارزميات المقيدة، وإلى أيدى وقلوب القرّاء.
بدأ العمل تحت ضغط اللحظة. فقد صادفتُ قصائد كُتبت تحت القصف، وصورًا نُشرت قبيل انقطاع الاتصالات، وأشخاصًا من مختلف الأعمار يوثّقون حياتهم بينما تُمحى أمام أعينهم. كان من المستحيل التعامل مع هذا كله بوصفه أمرًا تجريديًا أو بعيدًا. وقد تحوّل الكتاب إلى وسيلة لتكريم تلك الأصوات ومقاومة الصمت المفروض عليها.
كان فن التحدّى طريقتى فى المشاركة فى تحرير فلسطين. بناء أرشيفٍ لسردية مضادة تقاوم الاختفاء. وهو يؤكد أن الاحتجاج ليس خيارًا، بل ضرورة.
■ هل كان هدفك توثيق الحدث التاريخى نفسه أم رسالة احتجاجية وإثارة التضامن؟
- كلاهما. أرى الكتاب كعمل فنى وتدخل إبداعى وكوثيقة مقاومة فى صراع الفلسطينيين من أجل تقرير المصير.
يوثّق الإبادة والنزوح ومحو الثقافة من خلال أصوات من يعيشون هذه التجارب. وفى الوقت نفسه، يعترض الكتاب بلا مواربة على العنف الاستعمارى، وتواطؤ الولايات المتحدة، وتطبيع الموت الجماعى للبشر وغير البشر، من خلال التلطيف الإعلامى وتشويه الحقائق.
لم أرغب فى إنتاج قطعة تاريخية منفصلة أو بعيدة عن الواقع. كنت أرغب فى خلق شىء حىّ. شىء يتداول ويواجه وينشط. وإذا كان يوثّق أى شىء، فهو يوثّق الرفض.

■ كيف اخترتِ الشعراء والفنانين الفلسطينيين وضمنتِ تمثيل صوتهم الأصيل؟
- بدأ المشروع من خلال العلاقات والمراسلات، وليس بالقنوات المؤسسية. كنت أعرف بعض المساهمين مسبقًا من شبكات الناشطين أو الأكاديميين، بينما جاء آخرون عبر الأصدقاء أو المترجمين أو الشعراء العاملين فى غزة. وأيضًا موقع منظمة We Are Not Numbers، وهى منظمة فلسطينية غير ربحية. وتعمل على تعزيز روايات الشجاعة والحزن والمثابرة. وسمحوا لى بتضمين قصائد لشعراء نُشرت أعمالهم سابقًا بالمنصة. ركّزت فى الكتاب على الشعراء الذين يعيشون تحت الاحتلال أو النزوح أو فى المنفى، والمساهمات الدولية كمرافقة لا بديل. معظم الأعمال الفنية فى الكتاب من إعدادى، مع عدد محدود من الملصقات التى صممتها بالتعاون مع شريكتى ندى مريدبور، حيث نعمل معًا منذ ٢٠١٣ تحت اسم Louder Than Words لأسباب أمنية.
■ هل واجهتِ تحديات عند مزج أعمال فنانين فلسطينيين مع أعمال لفنانين آخرين من الخارج؟ كيف حافظتِ على صوت الفلسطينى فى المقدمة؟
- كانت أول التحديات التأكد من أن عملى الإبداعى، البوسترات والكولاج، لا يطغى على الشعراء، بل يبرزهم. لم تكن المسألة تتعلق بالإدماج، بل بضبط النفس. كان هدفى أن أصوّر أصوات الفلسطينيين كما هى، بدون أن يطغى عملى الفنى أو يتحوّل الكتاب إلى نمطية تخفى معاناتهم.
لذلك ركّزت على أن يتحدث الفلسطينيون عن أنفسهم مباشرة. أما المساهمون الدوليون، فأدرجتهم فقط عندما يدعم عملهم السرد الفلسطينى ويوضّح السياق السياسى، وليس لمجرد الزينة أو التمثيل الرمزى. الهدف لم يكن تعميم المعاناة، بل عرضها بوضوح من ناحية التاريخ والواقع، والأخلاق.
بحثت عن شعراء خارج فلسطين لإظهار الروابط العالمية، مثل ربط غارات الاحتلال الإسرائيلى بغارات الشرطة الأمريكية، أو تسمم غزة بتلوث حرائق لوس أنجلوس، لتبيان تكرار الاستعمار والاستنزاف عبر الجغرافيا. أحد التحديات الكبرى كان إنتاج كتاب ثنائى اللغة، وبما أننى لا أتحدث العربية. سأظل ممتنة للمترجمين. وواجهت صعوبة تقنية كبيرة عند إعداد الكتاب باللغتين العربية والإنجليزية، لأن برامج مثل Adobe وMicrosoft لم تكن تدعم دمج اللغتين بسهولة، ما أدى إلى تأجيل المشروع عدة أشهر. ما كان مجرد عائق تقنى بالنسبة لى أصبح درسًا رمزيًا: حتى البرمجيات تتعامل مع اللغة الفلسطينية كإزعاج، وفرض لغتين على الصفحة، كأنه يعكس النضال الأكبر لإثبات الوجود فى أنظمة لم تُصمّم لاستقبالك.

■ كيف قررتِ ترتيب النصوص والأعمال البصرية داخل الكتاب؟
- لطالما جمع عملى الفنى بين الصورة والنص، لذا كان هذا الأسلوب مألوفًا بالنسبة لى. بالبداية، قررنا أن يكون كتاب فن التحدّى باللغة الإنجليزية فقط وبترتيب زمنى صارم. ولاحقًا، مزجت بين المنطق الجمالى وخط زمنى مرن.
أردت خلق إيقاع، الحزن والغضب والذاكرة والصمود ولمحات من الفرح، كل ما يعكس الحياة داخل الكارثة.
الكتاب لا يسرد الأحداث بترتيب سلس، لأن العنف والمقاومة غير منظمة. بدلًا من ذلك، يعرض فصولًا متقطعة وانكسارات تعكس واقعًا دائم التغير. الصفحات الأخيرة صُممت خلال فترة قصيرة من توقف العنف، فظهرت فيها لحظات فرح، ثم تلتها مجازر وتدمير المستشفيات، فاضطررت لإجراء مراجعات لتعكس الواقع الجديد.
■ هل واجهتِ أى تهديدات، رقابة، أو اعتراضات أثناء جمع المواد أو نشر الكتاب؟ وكيف تعاملتِ مع ذلك؟
- نعم. فكان العثور على ناشر قادر على إصدار الكتاب بسرعة تحديًا كبيرًا. ورفض العديد من الناشرين المشروع بسبب الرقابة فى أمريكا وأماكن أخرى. كان النشر التقليدى سيؤخر صدور فن التحدّى لعام على الأقل، ولهذا اخترت الطباعة عند الطلب، ما سمح بإطلاق الكتاب بسرعة.
رفضت بعض المكتبات توزيع الكتاب، وتردد بعض الموزعين، وقللت الخوارزميات ظهوره. لكن التحدى الأكبر كان اللا مبالاة. الصمت هو الطلب السائد للإبادة.
■ كيف تتعاملين مع المسئولية الأخلاقية تجاه ضحايا الأحداث؟
- أنا حاصلة على ماجستير فى التصوير الفوتوغرافى، وتعلمت تحليل الصور ضمن سياقات القوة والتمثيل والتاريخ. أعى تمامًا موقعى داخل السردية. فالقصة ليست لى لأرويها، ومن غير الأخلاقى الادعاء بالعكس. لا أمثل الضحايا، بل أعمل معهم وأتلقى توجيههم. يهدف مشروعى لتسليط الضوء على شهاداتهم دون تحويل معاناتهم إلى عرض بصرى. الأشخاص فى الكتاب ليسوا مجرد صور مأساوية، بل هم شعراء وأهالى ومفكرون وفنانون يعيشون تحت الحصار. الكرامة والمسئولية والموافقة والسياق كلها أمور مهمة.

■ كيف ترين دور الفن المرسوم مقارنة بالكلمة المكتوبة فى التأثير على الجمهور؟
- لا يتنافسان بل يتعاونان، الصور تجذب الانتباه والشعر يكشف الحقيقة. الصور تصل حيث تعجز الكلمات، والشعر يحمل ما لا تستطيع الصور حمله.
■ هل كان هناك موقف واجهتِ فيه صعوبة فى نقل إحساس قصيدة أو رسالة رسومية بين اللغتين؟
- نعم. فاللغة تحت الاحتلال تحمل وزنها الخاص، والمشاعر لا تعبر الحدود بسهولة. علمنى المترجمون أن الترجمة ليست مجرد دقة ميكانيكية، بل إخلاص عاطفى. وهذا الإخلاص مهم بقدر المعنى الحرفى.
لا أستطيع أن أصف مدى روعة المترجمين. فقد بدأت أفهم الترجمة كفن قائم بذاته. وأكرر شكرى وتقديرى لهم وأقول:
إلى المترجمين الذين منحوا وقتهم وموهبتهم وقلوبهم لهذا المشروع: لم تحمل كلماتكم المعنى فحسب، بل أيضًا وزن التاريخ والأحلام والتحدّى. حولتم الجسور إلى شرايين حياة، وضمنتم أن تحلق أصوات هؤلاء الشعراء عبر الحدود واللغات. هذا الكتاب ما كان ليكون دون سخائكم ومهارتكم. شكرًا لتفانيكم ولتذكيرنا بأن الترجمة ليست مجرد فن، بل هى فعل حب وتضامن.
■ هل كان توجّهك الفنى منذ البداية يركّز على القضايا الإنسانية والأخلاقية، أم تطوّر مع الوقت؟
- نشأتُ خلال حرب فيتنام، وفى أعقاب حركات النسوية الموجة الثانية والحركات المناهضة للإمبريالية. لم تدفعنى تلك التجارب إلى الفن بحد ذاته، لكنها كشفت لى ما يمكن للفن أن يفعله. لم أكبر فى أسرة سياسية، لكن كان لدى أستاذ فى سنتى الأولى فى الجامعة، رون هانت، غيّر كل شىء. كان يدرّس الفكر السياسى ويكشف عن تاريخ غالبًا ما يُستبعد من السردية السائدة. فتحت رؤيته ومحتوى محاضراته عوالم جديدة لعقلى.
بدأت بالفن تدريجيًا عبر الخزف ثم التصوير الفوتوغرافى، الذى جمع بين البحث الفكرى والتعبير الإبداعى. اختيارى المهنى قائم على الأخلاق، التى تشكّل أساس تدريسى وفنى.

■ أى قضية تركت أثرًا عميقًا بكِ وجعلتك ترسمين أكبر عدد من اللوحات لدعمها؟
- فلسطين. لكنها ليست قضية. إنها محاسبة أخلاقية. وهى تفتح الأفق على الكونغو والسودان وهايتى ونضالات الشعوب الأصلية، تاريخ مترابط يشكّله استنزاف الموارد واغتصاب الأراضى والرأسمالية العرقية والسلطة الإمبريالية.
يعمل مشروعى الفنى عند تقاطع الفن والعدالة الاجتماعية، ويبحث كيفية عمل سيادة البيض وعدم المساواة الاقتصادية وكراهية النساء ووسائل الإعلام الجماهيرية كنظم مترابطة تهدد الأكثر ضعفًا أمام العنف الهيكلى. مشاريعى السابقة تناولت العنف ضد النساء والسجون والظلم الاقتصادى والهجرة والنزوح واستغلال الحيوانات. كل شىء مترابط والصمت أمام الوحشية تواطؤ.
■ كيف تختارين الأسلوب الفنى لكل قضية أو نص؟
- الشكل الذى أختاره ليس مجرد وسيلة لنقل المحتوى، بل له قوة وتأثير سياسى. الوسائط كالملصق أو الشعر أو الكولاج، يمكن أن تدعم النظام القائم أو تتحداه، حسب كيفية جذب الانتباه وإثارة المشاعر وفهم الناس. أختار كل وسيط بحسب الموضوع: الملصق يحشد الحركة، الشعر يغذى الحياة الداخلية، والكولاج يكسر الواقعية التقليدية. كل قرار بصرى يحمل رسالة سياسية واضحة.
■ هل رأيتِ أن مشاريعك الفنية تُحدث تأثيرًا مباشرًا على الجمهور أو السياسات؟
- نعم. لكن الفن لا يوقف الحروب بشكل مباشر، لكنه يغيّر وعى الناس الذين يرفضون الظلم، ويحفّزهم على اتخاذ موقف أو بدء حوارات، حتى بطرق بسيطة ويومية.

■ برأيك، ما الذى يجعل فن الجرافيك أداة فعّالة للمقاومة، وهل لاحظتِ أمثلة مشابهة فى دول أخرى؟
- الجرافيك أداة فعالة لأنها ملك للشعب. لا تنتظر إذنًا. من مصر إلى تشيلى إلى جنوب إفريقيا وفلسطين، تظهر الرسوم أينما كانت حرية التعبير مهددة. إنها لغة عامة. لم يكن هناك أى حركة اجتماعية دون تدخل فنى. من الفهود السود إلى ACT UP إلى الربيع العربى، سار فن الجرافيك دائمًا جنبًا إلى جنب مع حركات العدالة. هذه الملصقات ليست مجرد زخرفة، بل هى جزء من بنية المقاومة التحتية. كما أنها وثائق متينة لعصرها.
■ هل هناك فرق بين توثيق الفن الرقمى والأعمال المطبوعة أو المعارض؟
- الرقمى ينتشر بسرعة. الورقى يبقى. الشاشات مؤقتة. للورق جسد. وأعددت العمل ليظهر جيدًا على الشاشات، مع الحفاظ على جودته فى الطباعة. كنت أعلم أن الكتاب سيصل إلى جمهور أكبر بصيغة إلكترونية، لذلك اخترت ألوان الملصقات بما يناسب العرض الرقمى.
■ هل استخدمتِ أدوات الذكاء الاصطناعى فى مشاريعك الفنية؟
- نعم. لإصلاح وتدقيق تنسيق النص العربى كان منقذًا لى، أما بالنسبة للصور، فكل القرارات الفنية كانت لى بالكامل أو مشتركة بينى وبين ندى. لم يكن الذكاء الاصطناعى يومًا مؤلفًا إبداعيًا لم أستخدمه سوى مرة أو مرتين كأداة مساعدة.

■ برأيك، هل يمكن للذكاء الاصطناعى تعزيز إبداع الفنان أم يضع قيودًا على حرية التعبير؟
- أنا متأكدة من أنه يستطيع ذلك. لكن الذكاء الاصطناعى ليس محايدًا. التقنية يمكن أن تشعل الخيال وتوسّعه، لكنها لا يمكن أن تحلّ محله.
ما المخاطر التى ترينها عند استخدام الذكاء الاصطناعى فى الأعمال الاحتجاجية؟
- الذكاء الاصطناعى ليس محايدًا. فهو مدرّب على عمل مسروق، وبيانات متحيزة، وهياكل سلطوية معادية بالفعل للمجتمعات المهمشة. بالنسبة للعمل الاحتجاجى، هذا أمر مهم. والخطر لا يكمن فقط فى التكرار، بل فى الإزالة عبر الأتمتة: التسطيح، والتبييض، والاستحواذ على النضال دون مساءلة.







