أيام الشهد والعلم.. «الدكتور الفنان»: «لو صداقة طلابى تهمة.. أهلًا بها»
سيد عبدالكريم، رغم موهبته، لم يكن بالفنان المتفرغ الذى يكرس حياته للفن فقط، ولكنه نجح فى تحقيق معادلة صعبة فشل بها سابقون له ولاحقون، حيث جمع بين العمل الأكاديمى والفن والتمثيل، فهو الدكتور سيد عبدالكريم أستاذ علم مقاومة الآفات بكلية الزراعة جامعة بنها، وهو الفنان الذى خاض مجال السلك الجامعى وحقق فيه نجاحًا بالتوازى مع تألقه الفنى ليجمع بين الفن والعلم فى شخصية واحدة.
حياة سيد عبدالكريم الفنية على مرأى ومسمع من الجميع بحكم نجاح أعماله العديدة، ولا تحتاج لتسليط ضوء عليها، فهى بمثابة الذهب الذى لا يصدأ والماس الذى يُنير، ولكن كانت حياته العلمية والجامعية بمثابة السرداب الذى لم يقترب أحد من دروبه. لذلك «حرف» تحتفى بالفنان الكبير اخترقت هذا العالم لتنقل شهادة حية من زملاء وطلاب كانوا خير رفاق للدكتور سيد عبدالكريم.

المهندس طاهر جوهر، أحد طلاب الفنان الكبير، بدأ يستعيد الذكريات عن الأستاذ والقدوة، فى حواره مع «حرف»، قائلًا: لم يكن الأستاذ الدكتور سيد عبدالكريم نموذجًا تقليديًا للأستاذ الجامعى الذى يكتفى بالوقوف أمام طلابه خلف منصة التدريس، فقد تجاوز هذا الدور بوعى ومحبة، ليصبح أبًا روحيًا للجميع، لا يفرق بين طالب وآخر، ولا يعترف بحدود الطبقة أو الجغرافيا أو القبيلة أو الدين، كان يؤمن بأن الجامعة ليست مجرد مؤسسة للتعليم، بل فضاء لتكوين الإنسان، وأن الطالب لا يُبنى بالمعرفة وحدها، بل بالاهتمام والمشاركة، وباللمسة الإنسانية الصادقة.
ويضيف «جوهر»: كان الدكتور سيد يعيش مع طلابه فى كلية الزراعة تفاصيلهم اليومية ويخالط همومهم الصغيرة والكبيرة، حتى أولئك الذين لم يدرّس لهم مباشرة كانوا يجدون فيه ملاذًا ومرشدًا وصوتًا يسمعهم، وإذا لمح طالبًا تبدو عليه علامات القلق أو الحزن بادره بالسؤال، واستمع إليه وناقشه وسعى بكل طاقته أن يجد حلًا لمشكلته، سواء كانت نفسية أو اجتماعية أو علمية أو حتى مادية، فلم يكن يرى نفسه أستاذًا وفقط بل راعيًا ومسئولًا عن جيل كامل من الشباب، ومن فرط إيمانه بأن المعرفة لا تُختزل فى جدران المدرجات، كان أحيانًا يُلقى محاضراته خارج إطار القاعة الجامدة، يختار بستانًا أو مزرعة، أو مساحة خضراء بجوار نافورة داخل حرم الكلية، حيث كان يريد للعلم أن يُمارس لا أن يُتلى، وأن يظل حيًا متحركًا لا حبيس الجدران، و بذلك تحولت محاضراته إلى درس فى الحياة نفسها، لا فى المناهج وحدها.

وعن أشهر المواقف التى يتذكرها المهندس طاهر لأستاذه الدكتور سيد عبدالكريم، يقول: فى إحدى المرات استدعته إدارة الجامعة ذات يوم لجلسة تحقيق غير رسمى، محاوِلةً إقناعه بالابتعاد عن الطلاب، وعدم مجالستهم أو التفاعل معهم خارج نطاق المدرج أو معمل البحث العلمى، حيث أرادوا فصله عنهم، لكنه لم يقبل ذلك، وعندما طُلب منه أن يخفض من مساحة حضوره فى حياتهم، قال عبارته الشهيرة التى بقيت شاهدة على روحه الجسورة: «إذا كانت معايشة الطلاب علميًا واجتماعيًا وثقافيًا وفنيًا تُعد تهمة، فأنا لا أنكرها»، ومن وجهة نظرى أن هذا الموقف كان كاشفًا عن جوهره؛ فهو رجل منحاز إلى الطلاب، وإلى الوطن، وإلى القيم التى آمن بها، وقد دفع ثمن صدقه وانحيازه بأن تعرضت ترقيته للتعطيل، ووصل الأمر إلى إيقافه عن العمل، دون أن يتزحزح قيد أنملة عن قناعته.
يتحول الطالب السابق للحديث عن الجانب الفنى فى حياة أستاذه، حيث وصف مسيرته الفنية بالعبقرية، خاصة أن الجمهور ظل يحتفظ له بمكانة خاصة فى الدراما المصرية، فقد ترك بصماته فى العديد من الأعمال التى باتت محفورة فى ذاكرة المشاهد، وأحبه الناس فى دوره مع عادل إمام فى مسلسل «أحلام الفتى الطائر»، كما ارتبطوا بشخصية المعلم «زينهم السماحى» فى «ليالى الحلمية»، وخلّدوا حضوره المؤثر فى دور «عبودة أفندى» فى «الشهد والدموع»، و«المقدس بشاى» فى «خالتى صفية والدير»، إضافة إلى إطلالاته المميزة فى «أبواب المدينة»، وتجسيده شخصية «المعلم حنفى البحر» فى «الراية البيضا»، حيث كانت تلك الأعمال وغيرها كثير شاهدة على موهبته الأصيلة وقدرته على النفاذ إلى روح الشخصية مهما كانت تركيبتها.

ويختتم المهندس طاهر حديثه عن الدكتور الفنان قائلًا: هكذا ظل الدكتور سيد عبدالكريم يجمع بين صورتين نادرتين: أستاذ جامعى يرى رسالته فى الإنسان قبل العلم، وفنان قادر على أن يمنح الشخصية الدرامية روحًا حقيقية، وحين يجتمع العلم بالإنسانية، والفن بالصدق، لا يكون أمامنا سوى أن نتذكره بكل التقدير، بوصفه واحدًا من الذين مرّوا فى حياتنا وتركوا أثرًا لا يزول.
المهندس حمدى شاكر يلتقط طرف حديث الذكريات من صديقه وزميله السابق ليدوّن شهادته عن الفنان الدكتور سيد عبدالكريم، قائلًا: شهادتى فى الدكتور سيد عبدالكريم مجروحة، وهذا اعتراف صريح بالانحياز الإنسانى، فأنا ما كنتش بقول له يا دكتور.. كنت بقول له «يا خال»، لأنه كان فعلًا بمثابة الأب الروحى لينا كلنا، شبه متبنينى، وكان أقرب ليا من أهلى.
ويضيف شاكر: منذ اللحظة الأولى يتضح أن علاقة الدكتور سيد عبدالكريم بطلابه تجاوزت حدود التعليم الجامعى، لتصل إلى مستوى من القرب الإنسانى لا يشى إلا بصورة رجل عاش بين طلابه كأحد أفراد أسرتهم، لا كأستاذ تعلوه المسافة والهيبة الأكاديمية، فهو أستاذ لا يقف على المنصة بل فى الصفوف الأمامية مع طلابه، حيث كان نموذجًا للأستاذ الذى يتفاعل مع طلابه بشكل مباشر وفعال، فيقف إلى جوارهم فى كل أزمة، مهما اختلف حجمها وطبيعتها، مضيفًا: أى طالب كان عنده مشكلة، سواء فى الكنترول أو مع دكتور أو حتى مشكلة مادية، كان أول واحد يقف معاه هو الدكتور سيد، يروح بنفسه للعميد، يراجع الورق، ويطالب بحق الطالب، كان دايمًا مع المظلوم، وما يسيبش حد لوحده.

ويستكمل المهندس حمدى شاكر حديثه: لم تكن هذه مجرد مواقف عابرة، بل كانت منهج حياة اتبعه الدكتور سيد، يقوم على مبدأ ثابت؛ وهو عدم ترك أى طالب يواجه مصيره وحده، لذلك أحبه طلابه حب الابن لأبيه، لا حب الطالب لأستاذه، ورغم أن ظروفه المادية لم تكن ميسرة، فإن كرمه كان معروفًا للجميع؛ طلابًا وموظفين وزملاء، فأى موظف أو طالب محتاج سُلفة، كان يسلفه، رغم إنه مش مليونير ولا حاجة، بس عمره ما خيّب حد، أنا نفسى كنت باستلف منه، ونرجع أول الشهر نرد الفلوس ونستلف تانى، كان بيتعامل معانا كإخوات، فهذا الكرم لم يكن مقترنًا بمظاهر، بل كان إفرازًا طبيعيًا لشخصية تؤمن بأن المسئولية الأخلاقية جزء من رسالتها، وأن الإنسان يُقاس بما يقدمه للآخرين، لا بما يملكه.
وأضاف شاكر: لم تبق العلاقة بين الدكتور سيد وطلابه محصورة داخل الجامعة، بل امتدت لتصنع رابطًا أسريًا حقيقيًا، حيث كنت باروح بيته وآكل معاه وأنام عنده، كان بيتعامل معايا كابن، فهو ما كانش مجرد أستاذ، كان أخ وأب وصديق فى وقت واحد.
وعن الجانب الفنى فى شخصية الدكتور سيد، يروى التلميذ بانطباع صادق عن أدواره التمثيلية، قائلًا: رغم شهرتها لكن إحنا ما بنفتكروش كفنان بقدر ما بنفتكره كبطل شعبى فى حياتنا الحقيقية، الدكتور سيد كان الأمان، طول ما هو جنبك تحس إنك مش لوحدك، سيد عبدالكريم عبارة عن مروءة، وشهامة، ورجولة، وكرم، وإنسانية مالهمش مثيل.
الدكتور والمهندس عزت الخياط كان أحد طلاب الدكتور سيد عبدالكريم، الذى تحول بمرور الأيام إلى زميل فى كلية الزاعة بجامعة بنها، حيث وصف الفنان الكبير بأنه لم يكن مجرد أستاذ جامعى أو فنان مخضرم فحسب، بل كان حالة إنسانية مكتملة، استطاعت أن تجمع فى شخص واحد صورة الأب والمُربّى، والرفيق، والداعم، والقدوة، وشهادة تلاميذه وزملاؤه عنه تكشف حجم الحضور الذى تركه فى نفوسهم، وحجم الامتنان الذى لا يزال يسكن قلوبهم مهما مرّ الزمن.

ويضيف الخياط: لقد مررت بكل المراحل مع الدكتور سيد.. كنت طالبًا، ثم زميلًا، ثم رئيسًا، وهو دائمًا الأستاذ والإنسان، من طالب يتعلم على يديه إلى رئيس قسم يحظى بدعمه، حيث كنت طالبًا فى الكلية، وكان الدكتور سيد أستاذى. بعدها عُينت مُعيدًا سنة ١٩٨١، وتشرفت بأن يكون مشرفًا على رسالة الماجستير الخاصة بى، كان نِعم الأستاذ، ثم نِعم الموجّه للمُعيد، ومع مرور السنوات تغيرت المناصب، لكن بقيت مكانة الدكتور سيد ثابتة.

وعن أبرز المواقف الإنسانية يقول الدكتور عزت: كنت عضوًا فى فريق كرة القدم، وكان يهتم بنا بشكل يفوق الوصف، وذهبت إلى منزله لأسلّم له الرسالة، فلم أجده، فتركتها، وعندما علم، انزعج بشدة لأننى لم أستدعه أو أنتظره، وفوجئت بأنه سبقنى إلى منزلى، وجلس على أريكة متواضعة جدًا، ونام ساعتين ليستريح، ثم استيقظ ليُراجع معى الرسالة بنفسه، وكان يقف معى فى كل خطوة، ويعاملنى كأخ أصغر، لم يتوقف اهتمامه يومًا، كان يدعونا إلى مشاهدة أعماله المسرحية ويجلسنا فى الصف الأول، وكأنه يحتفى بنا.
وعن أدواره الفنية يقول الدكتور عزت الخياط: أحببت كل أدواره تقريبًا، من «أبواب المدينة» إلى «الشهد والدموع»، حيث كان يقدم شخصيات تنتمى للواقع، نابعة من الشارع المصرى، لذلك دخلت قلوب الناس، فهو زينهم السماحى، ابن البلد، ابن الحارة، الذى نشأ فى منطقة بسيطة.
فى نهاية الشهادة، يختصر الدكتور عزت الخياط المشهد كله بجملة واحدة: رجل لا ينساه من عرفه، ولا يغيب حضوره مهما مرّت السنوات، فالأثر الذى تركه لم يكن أكاديميًا فقط، ولا فنيًا فقط، بل إنسانيًا قبل كل شىء.







