الموبايلجية.. انتهاك شرف الترند
- «الموبايلجى المحترف» لا يتورع عن عمل أى شئ فى سبيل تحقيق الأرباح
- «الموبايلجى الهاوى» يعمل لحساب نفسه ليحقق مشاهدات تتحول إلى أرباح
ببساطة ودون فذلكة يمكننا أن نُعرِّف كلمة ترند «Trend» بأنها التركيز على موضوع ما خلال فترة زمنية قصيرة.
بهذا التعريف لا يجب أن نتعامل مع «الترند» باعتباره شيئًا جديدًا، أو أنه إفراز من إفرازات توحش شبكات التواصل الاجتماعى، فالبشرية منذ خلقها الله عندما نفخ فى آدم من روحه تعرف هذه الصيغة، التركيز على موضوع بعينه، وجعله مثار الحديث والنقاش والجدل والاتفاق.. ومؤكد الاختلاف أيضًا.
ولن يكون غريبًا عندما أقول لك إن أول «ترند» بهذا المفهوم يمكن أن يكون رفض إبليس السجود لأبينا آدم، فمؤكد أن الملائكة الكرام شغلهم هذا الأمر، وتناولوه بالأخذ والرد، وكانت لهم تفسيراتهم لما حدث بعد أن تناقلوه فيما بينهم.
ويمكننا أن نقيس على ذلك كل الأحداث المهمة فى تاريخ البشرية.
سفينة نوح كانت «ترند»، وإلقاء النبى إبراهيم فى النار كان «ترند»، وخروج النبى موسى من مصر وشق البحر كان «ترند»، وصلب السيد المسيح كان «ترند»، وهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت ترند.
وفى العصر الحديث كانت الترندات كثيرة.
ثورة ٥٢ كانت «ترند»، وهزيمة ٦٧ كانت «ترند»، ووفاة عبدالناصر كانت «ترند»، وحرب أكتوبر كانت «ترند»، واغتيال السادات كان «ترند»، وحرب الخليج كانت «ترند»، وعزل مبارك كان «ترند».
أمور ينشغل بها الناس، يتحدثون فيها وعنها، ويدلون فيها بآرائهم ويفسرونها كل حسب ثقافته وخلفيته السياسية والاجتماعية، وينظرون إليها من زوايا مصالحهم وما يحققونه منها ويعود عليهم من التفاعل معها.
فى نهايات الثمانينيات مثلًا عاشت مصر أيامًا لا حديث فيها إلا عن فتاة العتبة، التى حاول أحدهم اغتصابها فى الأتوبيس.
أذكر وقتها أن كل الصحف كانت تتحدث عما جرى، وتتبارى برامج التليفزيون فى مناقشة الأمر من كل جوانبه، وكانت تفاصيل الواقعة وجبة دائمة على موائد المصريين، كل منهم يدلى بدلوه فيها، ويحرص على إبداء رأيه، رغم أن أحدًا منهم لم ير شيئًا مما حدث، ولكنهم حصلوا على معلوماتهم من وسائل الإعلام.
فى زمن وسائل الإعلام التقليدية كان ترتيب أولويات الشارع بيد هذه الوسائل.
كانت هى مصدر المعلومات، يقرأ الناس الصحف ويستمعون إلى الإذاعات ويشاهدون التليفزيون، وكان حديثهم أسيرًا لما تعرضه هذه الوسائل ولما تنشره من أخبار وتذيعه من بيانات وما تبثه من أحاديث، ولذلك كانت الموضوعات التى يتحدث عنها الناس مرتبة ومنظمة ومحكومة بإطار عام تحدده وسائل الإعلام ومن يقومون على شئونها.
الآن اختلف الأمر كثيرًا.
فخلال السنوات الأخيرة تراجعت وسائل الإعلام التقليدية رغمًا عنها بسبب توسع الجماهير فى الاعتماد على الوسائط الحديثة، المواقع الإلكترونية ومن بعدها منصات التواصل الاجتماعى التى تفوقت على المواقع وأصبحت تقريبًا هى المصدر الأول للجمهور فيما يحصل عليه من معلومات، وفيما يتعرض له من آراء وأفكار، بل أصبحت هذه الوسائط الحديثة فى مأزق بعد التطور الهائل فى برامج الذكاء الاصطناعى، وما الشات جى بى تى عنا ببعيد.
مكنت هذه الوسائط التفاعلية الجمهور من أن يكون فاعلًا، وبعد أن كان متلقيًا سلبيًا فى الغالب، تحول إلى مصدر معلومات وحكايات وأخبار.. وشائعات أيضًا، ووجد النافذة التى يطل منها على الآخرين، فلديه صفحته على الفيسبوك أو حساباته فى إكس أو إنستجرام أو ثريد، أو حتى قناته على اليوتيوب أو التيك توك أو التليجرام أو الواتس آب، فهو ينشر ما يريد ويقول ما يشاء، دون أن يكلفه ذلك شيئًا إلا الكتابة على الحائط الذى أصبح طيعًا ومطيعًا، أو يتحدث أمام كاميرا مباشرة فى لايف حى أو يسجل فيديو ويقوم بمونتاجه بنفسه، وبعد دقائق يصبح متاحًا للجميع.
انتزع الجمهور من الإعلام سلطته فى ترتيب الأولويات، وأصبح المجتمع يرتب لنفسه أولوياته، ويحدد الموضوعات التى يتحدث فيها، وبالكيفية التى يحددها، دون أن تكون هناك مرجعية حاكمة، أو أطر عامة يتم الاتفاق عليها، وهو ما جعل النقاش فى المجتمع عشوائيًا، تغلب عليه الفوضى، بل تحول النقاش إلى معارك حادة ومنفلتة، وأصبحنا نعانى معاناة شديدة من حالة انقسام واستقطاب وعداء.
لم يكن «الترند» شيئًا سيئًا أو سلبيًا فى زمن وسائل الإعلام التقليدية.
لكن ما جرى أن الوسائط الحديثة انتهكت شرف «الترند» وحولته إلى شيطان رجيم.
وقد تسأل عما أوصلنا إلى هذه الدرجة؟
سأقول لك ببساطة إنه الفارق بين «الترند» المنضبط الذى كانت تصنعه وسائل إعلام منضبطة، تعمل بمعايير محددة، و«ترند» تصنعه وسائط منفلتة متحررة من أى معايير، ولا تلتفت إلى أى قوانين، فهى تفعل ما تراه، وما يحقق أهدافها، ومصالحها، وليذهب المجتمع كله إلى الجحيم، أو ليحترق تمامًا، فالمهم أن تأخذ ما تريده بالشكل الذى تحدده.
يعتقد الجمهور الآن أنه هو من يصنع الإعلام، وأنه يستطيع أن يغير ويبدل ويرفع ويخفض ويحكم ويتحكم.
وهو اعتقاد خاطئ تمامًا.
فبعد أن أصبح إعلام الجماهير الذى يتم تقديمه عبر الوسائط الحديثة مؤثرًا، وبدا للبعض أنه يمكن استخدامه واستغلاله فى صياغة الرأى العام وتوجيهه إلى المسار الذى يريدونه، بدأت قوى عديدة فى السعى إلى احتوائه والسيطرة عليه.
وهنا ظهر ما نصطلح على تسميته بـ«اللجان الإلكترونية».
نسمع جميعًا عنها، لكننا لا نعرف الكثير عما يخصها، رغم أن مَن يملكونها أصبحوا أصحاب السلطة والسيادة فى الإعلام الآن، فبمقدورهم أن يدفعوا المجتمع كله دفعًا فى الجهة التى يحددونها، ويستطيعون أن يفرضوا عليه الموضوعات التى يرغبون فى انتشارها، ويتمكنون من توجيه الرأى العام وتشكيله كما يرغبون.. كل ذلك دون أن يظهروا على المسرح، فهم مثل محركى العرائس الذين يقفون خلف الكواليس، يصنعون كل شىء دون أن تظهر أصابعهم التى لا تكف عن الحركة.
اللجان الإلكترونية ليست سياسية فقط، وقد عانينا من اللجان التى أسستها جماعة الإخوان بعد ٣٠ يونيو، واستطاعوا من خلالها التشكيك فى كل شىء، وزرع الفتنة فى المجتمع، وما زالت هذه اللجان تعمل وتلاحقنا حتى الآن، وأعتقد أنها لن تكف عن العمل، فما زالت المعركة بيننا وبين الجماعة الإرهابية قائمة ولن تنتهى، حتى لو كان الكثيرون يعتقدون عكس ذلك.
اللجان الإلكترونية انتقلت من دائرة السياسة، وأصبحت تسيطر على عالم الفن.
هناك فنانون كثيرون لديهم لجان إلكترونية يعملون فى خدمتهم، وراجعوا مثلًا ما يحدث فى شهر رمضان، فكل الفنانين «ترند» رقم واحد فى مصر والعالم العربى وربما العالم كله، وعندما تقترب من الصورة ستجد أنها ترندات مصنوعة وممولة ومدفوعة مقدمًا.
فى عالم الرياضة سطوة اللجان لا تقل عن سطوتها فى عالم الفن، وأعتقد أن كثيرًا من أزمات الرياضة فى مصر كانت اللجان هى سببها الأساسى، وكثيرًا من مظاهر التعصب التى نعانى منها يقف وراءها مَن يحركون هذه اللجان.
رجال الأعمال أيضًا دخلوا الملعب واستوطنوه، بعضهم يستخدم اللجان لغسيل سمعته مما لحق بها، وبعضهم يستخدمها فى معارك تكسير عظام مع المنافسين، فالمكسب هو سيد الموقف، ومن أجل الوصول إليه لا مانع من إهدار كل القيم.
ولن تتعجب إذا قلت لك إن اللجان الإلكترونية وصلت إلى عالم الثقافة والأدب.
فهناك كتاب متوسطو القيمة، لكنهم مع كل عمل ينتجونه يدخلون قائمة الأكثر مبيعًا.
فاللجان تلح وتؤثر وتبشر بهم، وفى كل مرة ينخدع القراء ويشترون الوهم.
لا أدعى أن لدىّ حلًا سحريًا لمواجهة ما يحدث فى عالم «الترند» المنفلت، ولن أقول للمواقع الإلكترونية ومنصاتها على السوشيال ميديا أن تتوقف عن التعاطى مع الترندات.
فللأسف الشديد أصبحنا نسير خلف هذه الترندات ونسعى إلى أن نكون فى صدارتها، بل إن العمل فى المواقع الإلكترونية الآن يبدأ بالبحث عنها ومتابعتها كأساس ومنهج، وبعد أن كنا نحدد للشارع ما يجب أن يتحدث فيه، أصبح الشارع هو من يوجهنا إلى ما يجب أن نعمل عليه.
إننا أمام طوفان تحركه أموال ضخمة ومراكز نفوذ وتأثير عملاقة.
وليس من السهل أن نضع الحل فى جملة أو جملتين، بل يمكننى أن أؤكد أننا أمام حرب شاملة يتم فيها استخدام الجمهور استخدامًا متقنًا، وعليه فيجب أن ندخل إلى القضية من باب أنها حرب وليست مجرد ظاهرة يمكن أن تأخذ وقتها وتنتهى.. ومن سيتعامل معها بغير هذا المنهج فلن يجد له مترًا مربعًا يقف فيه وسط هذا الزحام.
أعرف أن ما أتحدث عنه ليس مقصورًا ولا مقتصرًا على مصر، فهو موجود فى الدول العربية، وموجود فى العالم كله دون استثناء، ويبدو أن هناك حالة من الاستسلام له، نتحدث كثيرًا عن الوعى وضرورة رفعه للتصدى إلى حالة «الفوضى الترندية»، ونخاطب الجمهور ونحذره من أن يستجيب أو يتفاعل، غير منتبهين إلى أن الجمهور هو نفسه من يصنع هذه الفوضى.
الأمر معقد ومتشابك، ولن يكون كافيًا أن تعمل فيه الأجهزة الأمنية وحدها.
صحيح أن وزارة الداخلية عندما تصدت لمن كانوا يقدمون أنفسهم على أنهم صناع محتوى تراجعت الفوضى كثيرًا، وقل الصخب بشكل ملحوظ، لكن فى النهاية أعتقد أن الأمر مؤقت، وسرعان ما سيظهر آخرون، وربما جاءوا بما لم يأت به الأوائل، ولذلك لا بد من التعامل مع ما يحدث على أنه خلل مجتمعى عام، ويمكن أن يتحول إلى كارثة كبيرة.
فما دام الموبايل فى يد الناس جميعًا، فهناك من سيصنع المحتوى، وهناك من سيقوم بنشره على أوسع نطاق، يمكن أن أهون من شأن المواطن العادى الذى يكتفى بالتعليق أو إعادة النشر، لكن الأخطر هو «الموبايلجى المحترف» الذى يأخذ من صناعة «الترند» حرفته ومصدر أكل عيشه.
الخطر قد لا يكون كبيرًا فى حالة «الموبايلجى الهاوى»، فهو فى النهاية يعمل لدى نفسه، يحاول التكسب ليعيش، صحيح أنه يلجأ إلى كل ما هو مسموح أو غير مسموح ليحقق مشاهدات تتحول إلى أرباح، لكن فى النهاية عمره قصير.
لكن الخطر الأكبر فى «الموبايلجى المحترف» الذى يعرف جيدًا ما يفعله، وهذا بالطبع ليست لديه أدنى مشكلة فى العمل لصالح آخرين لهم أهدافهم ومصالحهم، وهو فى سبيل تحقيق الأرباح لا يتورع عن عمل أى شىء.
أنا هنا أحاول رصد بعض مما يجرى.
لست ممن يعتقدون أنهم يحيطون بكل شىء علمًا، وأن لديهم حلولًا جاهرة، لأن ما يقولونه فى الغالب نظرى ولن يفيدنا على الأرض بشىء.
أعتقد أن الأمر يحتاج إلى مجموعة عمل حقيقية.
لا أتحدث عن لجان، فاللجان فى بلادنا سيئة السمعة، لا خير فيها ولا خير منها، يجتمعون ويتحدثون ويدرسون ويصدرون التقارير والتوصيات ولا شىء يحدث بعد ذلك.
أنا أتحدث عن مجموعة عمل حقيقية، وليكن المسئول عنها المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، وهو مركز مرموق وله سمعته العلمية والبحثية.
مجموعة عمل تضم خبراء فى التكنولوجيا والإعلام والسياسة وعلم الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد والإدارة والاستراتيجيات، يجلسون ليدرسوا بعناية ما يحدث، يأخذون وقتهم الكامل فى دراسة ما يحيط بنا فى عالم الميديا الجديدة الواسع، من يحكمه ومن يتحكم فيه، كيف نتعامل معهم، كيف نتفادى ما يحدث، وإن فشلنا فى تفاديه، فكيف نتعامل مع آثاره؟
إننى لا أطلق اقتراحًا فى الهواء، بل أتمنى أن يتم التعامل معه بجدية، فنحن أمة فى خطر، ولن ينقذنا منه أحد، لن نخرج من هذا المأزق إلا إذا تحركنا نحن.. فهل نفعلها أم نستسلم؟
أتمنى أن نتحرك وفى أسرع وقت.







